عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-07-07, 23:07 رقم المشاركة : 1
سعيدة سعد
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية سعيدة سعد

 

إحصائية العضو







سعيدة سعد غير متواجد حالياً


وسام المنسق

وسام المركز الثالث مسابقة الإبداع الأدبي

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام المركز الثاني بأكاديمية الأستاذ

وسام المشرفة المتميزة

افتراضي المشاركة 30: عبد الكريم


شعلة تحت الأنقاض



هناك في إحدى البيوت الطينية عند متم سفح الجبل شمعة بعبق النور المتفتق من وهج النجوم، شمعة أخيرة نام عندها الصبية بينما أرخى الليل سدوله. صياح الديك أيقظه،توضأ فصلى فرض ربه.. حمل المرآة الصغيرة المخدوشة، ثم تحين فرصة تثبيت مقدمة رأسه في ركن من أركانها، لكن قبل أن يتم تسريحة الشعر التي أحبها ووالفها مذ كان صبيا في حجر أمه، نظر يمنة إلى الصبية وقد أخرجوا رؤوسهم من الغطاء الخشن الوحيد الذي يغطيهم، وفي المقابل تلك الزوجة التي قاسمته الحلو والمر. نغمات الأنفاس الهادئة لتلك الأجسام الصغيرة تملأ البيت عبيرا ملائكيا. خرج بوشعيب كعادته؛ متختلا يمشي على أصابع قدميه وهو يتخطى بعض الأواني، يريد ألا يزعجهم.. يريد أن تستمر الأنفاس في الانسياب دون كدر.رد الباب خلفه في صمت بينما لا زالت أشجار الخروب أمامه تبدو مثل أشباح، غادر مسرعا وأنفاس الصبية تتبعه. وفي رحبة يصطف مع الرفاق ، مسندا ظهره على الحائط ينتظر الفرج، ونسمات الفجر العليلة تضفي على المكان سكونا عابرا، وهمسات أصوات ثنائية تتناسب إيقاعاتها وتنفس الصبح الجميل. يمد رجليه مرة ثم يمسكهما مرة أخرى وأمامه أداته التي لا يعرف إلا بها، لا قيمة له إلا بحضورها، أداة من شدة التصاقها به ولزومها له تركت على راحة يديه ندوبا وخدوشا تكاد تجرح من صافحت . … طلعت الشمس ، ودبت الحركة في الشارع المقابل . أحس بدوار.. لعله الجوع،أخرج من جرابه قطعة خبز سوداء ملفوفة في منديل، أعطى شطرها للصاحب بالجنب… وهو يمضغ كسرة الخبز مر به رجل أنيق بربطة عنق ذكرت صاحبنا بالأبهة والشرف،نظر إلى الفأس الممدد أمامه قائلا :”ما أقبحك وما أشقى صاحبك ! شتت الله شملك، لم توردني إلا الألم والمعاناة والذل والمهانة ” نظرات غريبة يتقاسمها أصحاب “الموقف “،وياله من موقف! تتلخص فيه جميع أوجه المعاناة: منهم من لم يذق طعم العمل منذ أيام، ومنهم من يريد أن يفني عمره وصحته في أي عمل، لكن لم يجد ..وآخرون يسحب الوقت من تحت أقدامهم وتفكيرهم هناك،إلى تلك الأفواه المفتوحة الجائعة . فإذا كان سوق عكاظ مرتع خصب لكل من جادت قريحته شعرا ، فإن سوق البؤساء هذا تكشف سلعه كل أنواع الحرمان.. هذا هو “الموقف” ، زنزانة كل متشرد، وبحبوبة أمل لكل ساع لكسر أنياب الفقر. “بوشعيب! هاهي الشمس قد مالت نحو الزوال، وأنت لم تحض بأي عمل منذ أيام، وقد أفنيت أعواما من عمرك في هذا المكان البئيس دون جدوى.. ماذا لو تفكر في مغادرة البلاد! إيـــه ولكن… آبوشعايب،الصبية.. الزوجة من لهم.. !إيــــوا حتى نت أبوشعايب، لهم الله ، ربي كبير، رحمته واسعة..” حديث النفس هذا قاده حتما إلى سمسار كان يعرفه،ماهر في ترحيل الشباب إلى الضفة الأخرى. ــ نعم، نعم ،سأضمنك شريطة أن ترسل ثمن الرحلة من “الخلصة” الأولى .. ــ موافق، كثر الله من أمثالك،وأعطاك كل خير. تكدس الزورق الصغير القديم المهترئ بأجسام تداعت إلى قصعة ما وراء البحر،لم يطل المقام حتى قدم الربان،وهو ضخم البنية،غليظ الرأس،يبدو أنه مناسب لمثل هذا العمل،لا يمكن لأحد أن يتجرأ عليه،فلربما رماه خارجا في الماء دون أن تكون له الفرصة لرفع سبابته للتشهد. ــ أيها الزائرالجديد ـ يقصد بوشعيب ـ هل تعرف العوم؟ ــ بطبيعة الحال، يقولها وأنفاسه المتقطعة تكذبه..في الوقت الذي تتعالى فيه بعض القهقهات وتبرز بعض الأسنان الفحمية الجوفاء كأنها أعجاز نخل خاوية. ــ إذن،سنتفق، سننطلق عى الساعة العاشرة ليلا، كونوا حذرين! وإياكم أن تتأخروا، لن ننتظر أحدا. هيا تفرقوا الآن! لم يتخلف أحد، لقد حضروا جميعهم في الوقت المناسب،إنها فرصة العمر لكل واحد منهم، وبعد أن أعطى “الباترون” خطته،انطلقت “الألواح” تمخر عباب البحر. رائحة الأرجل تزكم الأنوف، وسجائر”كازا” الممزوجة برائحة العرق تبطل وظيفة كل ذي حاسة رهيفة..ولسعات البرد الرطبة تلزم الجميع بتقليص الأعناق ..إلا صاحبنا الذي أخرج رأسه، ينظر إلى السماء الزرقاء،يعد نجومها عدا، يحدق في أكثرها إشعاعا..ثم يرجع بصره إلى صفحة الماء يرى القمر نازلا ضيفا عليها، تعكس ضوءه الخافت مويجات الماء اللطيفة. وبينما لا تسمع في “الزودياك” إلا همسا، يتذكر بوشعيب الزوجة والصبية الذين تركهم ممددين نائمين ،لا شك أنهم يبكون ، فهم لا يعرفون وجهة أبيهم ومصيره. في اللحظة التي يتناهى إلى مسمعه حديث أحدهم وهو يتذكر عديد أعماله: من نبش للقبور بحثا عن كنوز القدماء، وكتابة للطلاسم إرضاء للزبناء: فمنهم من يريد أن يسقط حبيبته في أول نظرة، ومنهن من تريد أن يصبح زوجها حمارا تركبه، فلا يخطو إلا بأمرها ولا يتوقف إلا بإذنها، وأخرى تبحث عن زوج بعدما طال بها مقام العزوبة والعنوسة، فهي تتمنى لو تتزوج جنيا على أن تبقى نتوءات الزمن تأخذ من خانة الجمال في وجهها شيئا فشيئا.فهم بوشعيب كلام الرجل، فهم أن الناس في طلب الرزق مذاهب، فهم بوشعيب الذي لم يأكل إلا حلالا أن هذا المشعوذ عملة نادرة في صياغة الخرافة بين الناس. ــ يا شباب! هاهو ضوء الضفة الأخرى يظهر، استعدوا، فنحن على مقربة من اليابسة، كونوا يقظين! وماهي إلا لحظات حتى همس الجميع : وصلنا.. وصلنا. ــ هيا أسرعوا، اقفزوا! مع السلامة، لن أراكم إلا وأنتم تجوبون شوارع بلدتكم بسيارات فاخرة، ولن أسمع عنكم إلا وقد استبدلتم أكواخكم بفيلات فارهة…هون الله عليكم، إلى اللقاء. كان هذا آخر كلام سمعه من الباترون. تفرق الجميع كجراد منتشر،وراح بوشعيب يبحث عن مكان آمن حتى بزغ نور الفجر. لم يترك التهم تحوم حوله، لم يظهر أبدا بمظهر مهاجر وطئت قدماه المدينة لأول مرة..بوسامته استطاع أن يصنع لنفسه هنداما لا يختلف كثيرا عن باقي الناس.. كان ذكيا في اختيار هذا الأسلوب، فهو لا يكثر من الالتفات يمنة ولا يسرة، وإن أبهرته الحضارة والبناية والتنظيم…وهو يحدث نفسه من داخل نفسه فتظهر بين الحين والآخر بعض اختلاسات الابتسامة على وجهه: “وسيم معدم، من الحمار للطيارة… واه ياودي يا بوشعيب! من موقف البؤساء إلى حديقة الأمراء… !الآن يا بوشعيب تستطيع أن تمشط وأنت تمشي، فكل الواجهات زجاجية، لن تحتاج بعد اليوم إلى تلك المرآة الملعونة التي ما أعطتك يوما صورتك الحقيقية.. آه ما هذا العالم وما هذه الدنيا! ! ! حتى الكلاب يا بوشعيب! لها شأن عظيم، انظر، انظر! ما ترى كلبا دون رفيق، لقد ألفت النظام والانضباط مثل أصحابها تماما، أما كلابنا فقد ملأت شوارعنا وهي تعيث في القمامات فسادا.” ضبط صاحبنا إيقاع حياته بإيقاع المجتمع الجديد، بدأ أول عمل من خلال مساعدة بعض العجزة على حمل متعهم وسلعهم مقابل ما تجود به جيوبهم، وهاهو يكتسب الثقة والاحترام شيئا فشيئا. "يا الهي! مابال تلك المرأة الجميلة تنظر إلي؟! أنا الفقير المسكين الذي لا أملك إلا هذه الملابس القديمة التي عفتها ضلوعي.. إيــه، والله إنها لتبتسم، لكن مع من؟ ــ نظر خلفه عله يجد عشيقها، لكن لا أحد ، أرجع بصره نحوها فإذا هي تقصده بيدهاــ يا شعايب! احذر، لعلها تكون شرطية لمحت في تصرفاتك ما يميزك عن غيرك من (الأسوياء)" لم يصدق وهي تأخذه بيده والرجفة قد أجهدته وأخذت منه كل مأخذ…أحس بدفء وطمأنينة حين سمع منها كلمة(مرياج)، فهي الكلمة الوحيدة التي فهم معناها من خلال حديثها. أدخلته الكنيسة وصاحبنا مشدوه لا يلوي على شيء إلا أن يهز رأسه في اتجاه عمودي يعلن به “نعم”. اكتملت الطقوس بينما بوشعيب متوتر من ذلك الرعب الذي يحدثه المكان … ما أسعدك يا بوشعيب! فيلا من أفخم الفيلات، سيارة لم تخطر على بال ولو حلما، نسي العذابات، ونسي المعاناة، نسي كل ذكرى مؤلمة… استمرت حياته على منوال الترف والأبهة، وزوجته الرومية الفاتنة تنهره كلما سمعته ينطق عربية أو يتذكر شيئا من بلده. انسلخ عن كل شيء أصيل، يجد صعوبة في الرجوع إلى الماضي طوعا وكراهية، عادت نفسه تعاف كل مورود عربي،نسي المسكين أصوله وجذوره. لم يعد بوشعيب ذلك الرجل اللطيف ، ذلك الرجل الذي يحزنه كل موقف مؤلم، بوشعيب اليقظ الحساس أصبح بوشعيب المتكبر المتعجرف. بدل كل هندام يوحي له بالبدائية والتخلف، شعرطويل مفتول مسدل على رقبته، و أصابع ضاقت درعا بخواتم مرصعة بالذهب، أما أذرعه وسيقانه فقد حطت عليها كل فنون الوشم الأوروبي والصيني، لقد غاص وتوغل في أغوار هذه الحضارة، وارتمى بين أحضانها، ممسكا ذاته كل الإمساك كي لا تقع في محظور تعاسة ومتاعب الماضي. انمحت عنده كل أساليب الدارجة والأمازيغية التي طالما كان حديثه بها غاية في الروعة والجمال، غاية في الإبداع ،مجازا وإيجازا.. إنه يرى في الرومية جزء منه، لا ينفك عنها حياة ومماة ، فهو لم يرزق معها بأولاد، لكن لا مانع ولا مشكلة، حياة الموضة والعصرنة أفضل من هذا، فقد استبدل هذه النزعة أن اقتنى كلبين بفراء ناعمة من أرقى أسواق باريس، يقبلهما صباح مساء، لا تراه في الشارع إلا وهو يحمل (بلاك) بين ذراعيه،و (وايت) يجره تارة، وتارة هو المجرور.. لم يعد يعرف للأموال أرقاما، فالرزق الوفير يغدق عليه من كل جهة، وحانته الضخمة تستقطب كل أجناس الدنيا. ذات مساء من أماسي “الويكاند” وكعادته حمل الزوج المخلص الهدايا النفيسة لزوجته” الوفية” ــ زوجتي العزيزة، هل أكمل البستاني تشذيب الشجيرات؟ ــ البستاني! لا، لم يحضر منذ مدة. ــ لكن، ومن هو الرجل الذي خرج من الحديقة قبل قليل؟ ــ إيــــه..إنه صديقي الوفي يا زوجي، صديق الطفولة والدراسة، وقد غاب عنا كثيرا، أتدري… لقد أكمل دراسة الهندسة في أمريكا، لذلك زارني حاملا لي هدايا نفيسة. ــ ماذا؟! صديق! وعندما لاحظت على وجهه الاستغراب والدهشة اقتربت منه قائلة: jamais ,c’est un ami intime ,pas me comprendre tu veux,Ah mon mari" retourner al’ere de décadence" مسكين بوشعيب! اعتاد على كل شيء إلا هذه،لم يكن يعلم أنه قد يكون لهذه الحداثة المزعومة أنياب يمكن أن تهوي به في مكان سحيق. تذكر أدب الخلق هناك، فلم يصرخ في وجهها ولم يتفوه بكلمة تخرم بندا من حقوق المرأة، بل ألقى بالهدايا على الأرض وخرج للتو متمتما: ” الملعونة..المسخوطة.. ماذا تقول الزنديقة..بنت الحرام؟!…” لكن…ما أسعدها صدمة! وما ألذ وقع المصيبة على نفسه! لقد أحدثت انكسارا مفاجئا في الزمن أرجعه عنوة إلى ذكريات الماضي البعيد، تسللت شفرات إلى ذاكرته تفك عقال المخيلة، فإذا به يتذكر ذلك المثل الذي طالما همس به جده في أذنه(اللهم التبن والراحة ولا الشعير والفضيحة). جلس على الكرسي الثابت في الحديقة العمومية، اختلى بنفسه وهو وسط الزحمة تراوده تلك الأفكارالأصيلة التي كان ينبذها، بل كانت في اللاشعور محتاجة إلى من يوقظها. إنه الآن يتابع باهتمام تلك الزوجة وزوجها وهما يداعبان ولديهما في غاية الفرح والحبور.منظر كهذا كان كافيا لإنزال الدمعات وراء الدمعات ، لقد ارتعش ارتعاشة جعلته يتذكر ولديه وزوجته فشرع يصرخ معانقا الشباك الخلفي للكرسي مناديا بأعلى صوته كالمجنون ” ولدي حماد.. بوشتة ،ولدي.. زوجتي…” “سأغادر، سأرحل… لكن كيف السبيل للوصول إليهما؟ ربما قد قضوا جميعا.. ماتوا جوعا، بل لا أتذكر حتى اسم الدشر كما هو،كيف لي بذلك وقد مرت علي هنا خمسة وعشرون عاما… !” عزم صاحبنا على العودة ، ولن يثنيه عن ذلك شيء وإن لم يبق على وجه البسيطة إلا تلك الرومية الملعونة.. وقبل أن يغادر كان لزاما عليه أن يأخذ من شعره الطويل وأن يتحرر من كل الخواتم ، كان لا بد أن يغيرمن ذلك الهندام الذي ظل مسجونا عبره فترة طويلة من الزمن … حزم الحقائب واقتنى ما لذ وطاب وفي قلبه شعلة شوق لمعانقة رمال بلاده، ودمعة حنين لمؤانسة أهله وأولاده.. حلقت الطائرة في الأجواء، وفي جوفها قلب يخفق خفقة فرح كلما عانق حمادا، ويخفق خفقة إخفاق كلما مات حماد، مات حماد عدة مرات ، لكنه لم يمت!…حماد كان له عظيم الأثر بينما بوشتة تركه بوشعيب وهو يتكبد عناء الخطوات الأولى. وفي الطائرة كان شريط الذكريات يمر سريعا كالبرق، سريعا سرعة المكوك الذي يمتطيه، شريط حياته هذا لم يكن تراتبيا، فيتذكر أصداء من طفولته ليعرج على لمحات من شبابه ويتراخى مرة أخرى نحو براءته ثم ينتقل بدون فواصل إلى حكايته مع الحضارة هناك … هاهو الآن في “المسيد” بقشابته البالية التي انكمشت جوانبها السفلى،واندثرت معالم لونها تحت وقع سياط شعاع الشمس صيفا وخريفا ،يجلس مع “المحاضرة” ، مقابل ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، صاحب الفلقة والقفة الأربعائية، والعصا المقوسة التي يصل عنفوانها إلى كل ذي حركة زائدة، قريبا كان ، أم في آخر الحلقة.وتتعالى أصوات الصبية عند إغفاءة الشيخ التي ما دلهم عليها إلا سقوط العصا من يده متبوعة بالسبحة والذباب الذي يتجول في محيط الفقيه دون رقيب ينهره. وعندما يعلو اللغط ، تستيقظ العصا الملهبة فتسيح فوق الرؤوس لا تفرق بين من الجاد واللاهي لتذيق الصغار ألوانا من الضرب المبرح والنقر المؤلم. وفي الجهة اليسرى تجلس بنت الجار، هي، هي التي زفت إليه في ذلك اليوم المشهود…فكل منازل “الدشر ” انتصبت فوق سطوحها رايات بيضاء كقلوب أصحابها…أصدقاؤه الشباب يقترعون فيمن يكون “وزيرا” لمولاي”السلطان”، الكل فرح ومنتش بهذه المناسبة…هي “الغالية” التي ساقها قدر الله مع أمها إلى نبع الماء في ذلك اليوم ،هي “الغالية” التي توارت خلف أمها وهي تمشي على استحياء…هي ” الغالية” التي أردته قتيل الحب العذري…حيث كانت النظرة صباحا والخطبة مساء، أما العرس فبعد ثلاثة أيام مباشرة. ذكريات جميلة لا يعكر انسيابها إلا وقوف الرومية بين الحين والآخر ماثلة أمامه بشعرها الذهبي ولباسها القزمي فتنهال عليها أصناف من السب والشتم، فهي لم تكن سوى رمز البشاعة والقذارة. وهاهو بين جدران سميكة ،لا يتحرك، يعتبر المكان زنزانته.. معلم كم تمنى أن يموت من ساعته، فهو وإن تحرر من قشابة المسيد، فالفلقة هي الفلقة، وما زالت نظرة مدرسه من وراء مكتبه الخشبي تحمل كما هائلا من الرعب والخوف،أما اللعب فمن الممنوعات داخل أسوار المدرسة… لذلك فهو يغتنم كل عطلة ليقتسم و عشيقته الصغيرة أجمل الأحاسيس بينما تصنع أحلى العرائس وهو يبني أرفع القلاع والدور بالأحجار الصغيرة، ولا يفتح بابا أو يغلقه حتى يشاورها. كم تمنى أن يرجع ذلك الطفل، ذلك البريء الذي لم تشغله دنيا ولا آخرة، ولم يعكر صفوه قوت يوم ولا تدبير شغل. قهقهة من صاحبنا سمعها جيرانه الركاب، لقد تذكر أسبوعه الأول عند الأعاجم حين كان يتناول تلك الأكلة اللذيذة ليكتشف في الأخير أنها مخصصة للقطط، فقد كان يقتنيها دون أن يعرف أن للحيوانات أيضا نصيب في أكبر دكاكينهم. هو الآن مبحر في الصفحة التاسعة من صفحات ذاكرته ليجد فيها مرتعا خصبا يشع بأنوار الأمومة والأبوة، تذكر شطحاته وشغبه داخل المنزل بينما أمه التي ماتت بعد زواجه بثلاث سنوات، تلقيه بنعالها وحين لا تصيبه تهرول خلفه وهي تتوعده بالضرب والسلخ، أما صاحبنا فمختبئ لا يهتم بكلام أمه، لكن ما إن تهدده بإخبار أبيه حتى يجري نحوها معانقا إياها “أماه! عافاك.. لا تخبري أبي، (والله ما نعاود)”،لكن يتساءل دائما: لماذا أخاف أبي وهو الذي لم يضربني يوما؟! يتذكر مع أبيه مواسم الحرث، تلك الأيام الجميلة،ما أسعده من رجل صغيروهو يكلفه أبوه أيام السوق بالحرث! أي رجل صغير أصبح! يقبض بيده الصغيرة بالمحراث الخشبي وهو يعمد إلى تغليظ صوته يحث الدابه علىالمسير،في حين تتحسس يده الأخرى ذقنه باحثا عن “زغبة” بكرت بالبزوغ. صدى الطفولة ما زال حيا لم يمت في ذاكرة بوشعيب، لم تكن أمواجه إلا راقدة راكدة في طيات تجاعيد الحداثة، لتنبعث من جديد … انتهت رحلة ذكريات صاحبنا مع هبوط الطائرة على أرض وطئها أجداده …وفي المحطة الصغيرة، يسيح بصره في الوجوه يتفرسها لكنه لم يتذكر أحدا. ــ سيدي، أريد الذهاب إلى “دشر” أ،أ … ــ أفهمك، لكن كم ستدفع؟ فحقائبك تبدو ثقيلة. وهو يتساءل مندهشا: لكن إلى أين يمشي هذا الغريب؟! ــ كل ما ستطلبه، يأتيك. وفي الطريق كانت كل المعالم قد تبدلت وانمحت كثير من الآثار التي كانت تأخذ مكانها في حياة صاحبنا. يا إلهي! من فعل هذا بقريتنا؟! ما هذه الكارثة التي حلت ؟ ماالذي رحلهم؟ أهو طاعون قطع أوصالهم؟ أم ريح عاصف شتتت شملهم؟!!! لا، لا، ربما أخطأت العنوان.. لكن هذه هي خروبتنا، وهذا هو الواد الذي يفصل بين دارنا ودار جدي، وهذه هي آثار الأسوار التي كانت تحيط بمنزلنا. هاله منظر ما رأى، وما صار إليه الدشر، لم يبق إلا هذه الأطلال تبكي ماضيها، وهذه الأشجار ترثي دانيها…. ارتجفت قدما بوشعيب ولم يقو على الوقوف، فجلس عل حجرة مسندا كلتا يديه على ركبتيه وقد وضع راحة كفيه على جانبي وجهه، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ضاع كل شيء ، لم يعثر على أي شيء. رفع رأسه قليلا ، صوب بصره نحو ذلك السور الذي ما زالت الأحجار المتناثرة من حوله لم تبتعد عنه وكأنها تحن إلى الاصطفاف مرة أخرى…أسرع إليه وكأنه سمع أباه الذي رحل إلى ربه قبل زواجه بشهور، يوم كان يساعده في بنائه، “حاضر أبي”.. “ناولني بني تلك الحجرة”.. “خذ، أبي، ضعها في الجنب يا أبي …”.. “أوليدي ، أمك تنادي من وراء البيت.. “حاضر، أمي، ماذا هناك؟”..”بني!أسرع إلى أبيك بهذا الشاي والخبز، لعله متعب جائع، فليسترح قليلا ، فمشاغل الدنيا لم ولن يكملها أحد”… رجع المسكين إلى الجلوس مرة أخرى شاحب الوجه.. لم يجد حمادا ولا بوشتة ولا زوجته(الغالية)… وبينما هو كذلك، مصوب وجهه نحو الأسفل إذ بحوافر دابة ينتهي صوتها أمامه.. ــ السلام عليكم…سيدي ماذا تفعل هنا؟.. هل تبحث عن شيء؟.. هل انقطعت بك السبل؟.. سيدي، لماذا لا تجيب ؟..لا شك أنك غريب عن هذا المكان! يسأل الرجل الراكب، وعندما لا يجد جوابا يصمت قليلا ليردفه بسؤال آخر، وهو بين سؤال وآخر يحدق في الغريب، بين أناقة جذبت انتباهه وحالة حزن آلمت قلبه.. وبعد لحظات ترقب، يرفع بوشعيب رأسه شيئا فشيئا، فإذا برموش عينيه قد التصقت بدموع الندم والاشتياق، ثم ينظر إلى صاحب الأسئلة وهو يرد بصوت خافت ومتقطع : وعليكم السلام ، بينما إحساس غريب قد اخترق جسمه وتسلل إلى قلبه. ــ حسنا، لابأس عليك سيدي، هل تقبل أن تنزل ضيفا عندنا؟ سيفرح بك مولاي، إنه يحب إكرام الضيف، يحب كل عابر سبيل. حمل الشاب الحقائب على البغل بعد أن ركبه بوشعيب، وسارا في الطريق البعيدة، لقد كان الحديث بينهما قليلا في حين ظل الصمت حديثا داخليا يغري باختلاس القسمات. ــ بني! من هذا الضيف؟ ــ مولاي، عابر سبيل، أولعله يبحث عن شيء. ــ يا مرحبا بزائرنا،مقام مريح لك عندنا، تفضل، تفضل. أحس الغريب بطمأنينة غمرت قلبه،طمأنينة عوضت له بعض الآلام والأحزان. لقد كان حديث الشيخ المسن في السهرة سياسيا بحكم أنه كان المنسق بين القبائل لمواجهة المستعمر، وكلما حاول الفتى الاقتراب من هموم الرجل ومعرفة سبب بكائه في ذلك المكان إلا وانفلتت فرصته أمام قوة حديث مولاه، فالشيخ لا يعنيه من يكون الغريب ولا أهداف مجيئه ، ولا شيء من هذا كله.. وفي الصباح بينما أرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتروي بها تلك الأرض التي ازينت بشتى أنواع الربيع، شكر بوشعيب الشيخ وأثنى عليه، بعد أن ترك كل حقائبه هدية له على كرمه وجوده وحسن ضيافته،وودعه في حين استمر مع الشاب وقد أبهره حسن أدبه وروعة أخلاقه. ـ بني! سمعتك تقول للشيخ مولاي. دمعت عينا الفتى ، ولم يتحدث إلا بعد أن مسح دموعه:”أمي رحلت عن الدنيا وقد تركتنا صغارا أنا وأخي، وقد تكفل بنا هذا الشيخ الجليل الذي لن ننسى فضله مدى الحياة.” ــ يرحم الله أمك، و… يستمر الشاب في الحديث:” كانت أمي تسلينا ونحن نسأل عن أبينا، بأنه سيعود قريبا، سيعود بعد أيام،لكن عندما كبرنا أصبحنا ندرك معنى الأيام والأعوام،فتساءلنا مرات ومرات…لماذا لم يعد أبي يا أمي؟وكان الجواب واضحا هذه المرة: أبوكما يا أبنائي، غادر ذات مرة كعادته بحثا عن عمل، ولم يعد منذ ذلك الحين، وقد قاسيت الكثير من أجلكما ، وقد وصلني خبر هجرته إلى وجهة غير معروفة وأظنه الآن قد رحل رحلة أبدية عن هذه الدنيا… اقشعر جلد بوشعيب وهو يسمع حكاية، ما أشبهها بحكايته! وما أكثر من يتألم مثله في هذه الدنيا! وبينما الفتى يتحدث ناداه الشيخ: لا تنسى يا بني، فهذا المساء سيصل أخوك بوشتة. ــ يا إلهي! أأنا في الحلم أم ماذا؟! ما هذه الأسماء! ،يتمتم الغريب بهذه الكلمات بينما قسمات وجهه تقاسمته ألوان الغرابة والدهشة والحنين والترقب.. ــ حالا مولاي، قلت لك سيدي الفاضل، كل ما أعرفه عن أبي هو اسمه، اسمه الذي كان على شفتي أمي صباح مساء، كانت أمي تقول وهي متيقنة أنه قد قضى نحبه في تلك البلاد : يرحمك الله يا بوشعيب، بوشعيب… توقفت أنفاس صاحبنا،وارتجفت قدماه وهو يصيح بأعلى صوته: لا، لا، لم أمت ، لم أمت، أنا بوشعيب، ما زلت حيا، ابني حماد ! حماد ابني.. ــ ماذا دهاك يا رجل؟ أتعرف اسمي… بوشعيب الحساس، التصق التصاقا بحماد وهو يقول: أين بوشتة؟ أين أمك “الغالية”؟ في تلك اللحظة أدرك الفتى أن الماثل أمامه هو أبوه حقا، وتذكر بكاءه المرير أمس عند أطلال البيت القديم، ولم يحس إلا ورأسه على صدر أبيه وقد دبت السعادة والفرحة في كل عروقه.. ثم اشتد العناق واختلطت الأصوات، أصوات تمزج بين كل أسماء الأسرة، تمزج بين كل لذائذ الأفراح، بينما سقط ما في أيدي الناس، ووقف الشيخ ووراءه أهله وبعض الجيران مبهورين ، وهم ما بين دمعة ضاحكة وصيحة بهيجة. لقد أصبح المكان ذا قدسية كبيرة عند الصغير والكبير، ورمز حياة لكل من يبحث عن بصيص أمل …






التوقيع











    رد مع اقتباس