عرض مشاركة واحدة
قديم 2013-06-23, 12:50 رقم المشاركة : 5
بالتوفيق
مشرف منتدى التعليم الثانوي التأهيلي
 
الصورة الرمزية بالتوفيق

 

إحصائية العضو







بالتوفيق غير متواجد حالياً


وسام الرتبة الثانية  في مسابقة القرآن الكريم

المرتبة الأولى في مسابقة صور وألغاز

وسام المرتبة الأولى للمسابقة الرمضانية الكبرى 2015

بالتوفيق

افتراضي رد: حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار للغساني


الجزء الرابع
قيمة الكتاب التاريخية
يحتوي كتاب "حديقة الأزهار" على فوائد تاريخية مهمة تشمل جوانب مختلفة. فهو إلى جانب أهميته الأساسية في التعريف بالأعشاب ومنافعها الطبية، وأنواع الأمراض التي كانت موضع عناية الأطباء في تلك الحقبة التاريخية، فالكتاب يتضمن أيضاً معلومات تهم أنشطة اقتصادية وأوضاعاً اجتماعية ميزت بلاد المغرب على العموم ومدينة فاس على الخصوص. وعدد كبير من هذه المعلومات مهم ينفرد الغساني بإيرادها دون المصادر التقليدية، كما أن عدداً من هذه المعلومات فاتت عدة باحثين معاصرين اهتموا بالتأريخ للفترة السعدية. ومما يزيد في قيمة تلك المعلومات أن صاحبها اعتمد في جمع جزء كبير منها على مشاهداته الخاصة وخرجاته الاستكشافية الميدانية.
إن قيمة الكتاب التاريخية لا تهم فاس فقط، بل تتعداها إلى جهات أخرى. من ذلك مثلاً المعلومات النادرة التي يقدمها الغساني حول القطاع الفلاحي والمحاصيل الزراعية التي ميزت بعض المناطق من بلاد المغرب. فهو عند حديثه عن »الفِصفِصة« (بكسر الفاءين) يذكر أن »منابته الجنات والعمارات وبين التخوم والزروع«، ويضيف: هي »كثيرة بمراكش يحرثها الناس بالجنات والعيون تسمن عليها الخيل جداً«.
وفي مكان آخر يذكر الموز ويصف ثمر هذه الشجرة، فيقول إنه »كالخيار يجنى قبل نضجه ويترك في أزيار (جمع »زير« وهو الكتان) مغموماً حتى يأخذ في النضج. فإذا نضج، كان طعمه كعسل وسمن ممزوجين«. ثم يقرر: »ليس شيء منه بأرضنا في هذا الزمان«، أي في أواخر القرن العاشر الهجري، بينما يؤكد أنه »كان قبل هذا الوقت بمدينة سلا ودمر منها«. هذه الملاحظة الأخيرة ينفرد بها حسب علمنا الغساني، وفاتت بعض الدارسين المهتمين بالفترة السعدية، فقرروا استمرار زراعة الموز بسلا استناداً إلى إشارة الوزان في هذا الموضوع.
ويشير الغساني إلى ازدهار زراعة قصب السكر، الذي »يعرف عند العامة بالمغرب بالقصب الحلو. وهو كثير بناحية سوس من المغرب الأقصى خارج مدينة تارودانت، يعتصر هنالك بمعاصر كثيرة الرجال والخدام«. ومما ينبه عليه الغساني إنتاج »عسل أبيض كالكافور« بناحية دبدو بالمنطقة الشرقية من المغرب الأقصى، إذ أن النحل ترعى نبات الشيح الذي يكثر بهذه المنطقة، حيث »منابته الرمال وقرب البحر«.
ومن جملة الفوائد التي يتضمنها الكتاب أيضاً، استعمالات بعض الأعشاب والمواد في المجال الغذائي والصناعي. من ذلك مثلاً لجوء الناس في زمان الجدب والغلاء إلى نبات يعرف تحت اسم »لوف«، وهو »من جنس الكفوف، ومن نوع البصل (…) ويسمى عندنا بالمغرب آيرنا«، حيث يصنع منها الخبز، بالرغم من »أنها تضر بالحلق وتنفطه«. وفي مكان آخر يشير الغساني إلى نبات يعرف عند العامة بالزوان »منابته مع الزرع، يطحن ويعتصد ويقتات منه، ويأكله الطير الصغير مثل العصافير واليمام والحمام، معروف عند الفلاحين.
ويطلعنا الغساني عند حديثه عن شجر العرعر على أن »خشبه أحمر ملزز صفيق يكل في قطعه الحديد (…)، عطر الرائحة، تصنع منه الأكواب والمشربات والغراريف«. ثم يضيف: »وهو كثير بناحية تازة، وبها تصنع هذه الأواني المحكمة الصنعة والإتقان وجميع أنواع القصع والأجفان«. ومن دون شك، فإن منتجات بهذه الجودة والتنوع والإتقان كانت تجد لها سوقاً رائجة بمدينة فاس وتنافس إنتاجها المحلي، إذ أن حاجة الناس لمثل هذه الأواني دائمة ومستمرة. وعند تعريفه لنبات يسميه العامة بالمغرب »القنب«، يذكر أن هذا النبات »كثيراً ما يزرع بناحية مكناسة الزيتون«، حيث »إذا يبس وجف، يمرس وينفض كما ينفض الكتان، ويصنع منه الشرائط والحبال«. ثم يشير الغساني إلى ظاهرة اجتماعية خطيرة مرتبطة بأكل ورق هذا النبات الذي من خواصه الإسكار، ويسمى عند العامة بالحشيش، فيقول: »وقد عمت البلوى في هذا الزمان الكثير الفواحش والمناكر بكثرة أكله والاشتغال به عند الرجال والنسوان والشبان والصبيان، وفحش ذلك فيهم واتبعوا أهواءهم إلا من عصمه الله« .
ويطلعنا الغساني عند شرحه لماهية نبات يعرف تحت اسم »أشتان«، أنه »كثيراً ما ينبت بناحية مراكش، ويسمى عندهم بالغاسول«، ثم يشرح سبب إطلاق العامة لذلك الاسم فيقول: »لأنه يغسل به الثياب فينقيها من درئها ويبيضها، وله رغوة كرغوة الصابون«. ثم يذكر فائدة أخرى: »وبه يغسل اللك فينقيه من درئه وحثالته، ويحل به حتى تتمكن به الكتابة«.
ويدلنا الغساني في كتابه على مكان استخراج بعض المعادن ووجوه استعمالها في عصره. فهو عند تعريفه للإثمد، يذكر أنه حجر صلب ثقيل ملمع براق كحليّ اللون »يخالطه الرصاص في جسمه. ولذلك، إذا جعل مع الفضة عند السبك، كسرها«. ثم يضيف: »وله معادن ومواضع بناحية ملوية بقرب أرض ميسور بأماكن هناك ومعادن تسمى ببني يسترى وبني تجت مشهورة معروفة فيها معادن الإثمد والرصاص والحديد« .
إن الحديث يطول بنا لو أننا كلفنا أنفسنا تتبع الفوائد التاريخية التي يتضمنها الكتاب والتي تخص مناطق مختلفة من بلاد المغرب وبلاد الأندلس، ولكننا أردنا لهذا البحث أن يركز بالأساس على مدينة فاس وأحوازها. إن الكتاب يكتسي أهمية كبيرة بما يتضمنه من معلومات ولو أنها غير مباشرة، لأنها تسلط الضوء على بعض الجوانب الدقيقة من أوضاع المدينة الاجتماعية والاقتصادية، خصوصاً في فترة جاءت مباشرة بعد سلسلة من الأزمات المختلفة التي مرت بها المدينة وكافة بلاد المغرب نتيجة انحطاط الدولة المرينية منذ أواخر القرن الثامن الهجري، حيث كانت فاس عاصمة لتلك الدولة. ولقد عجز خلفاؤهم من الوطاسيين عن وضع حد للفوضى التي كانت تعيشها البلاد، والتي كان من مظاهرها استفحال الصراعات القبلية، وتوالي سنين الجفاف والقحط، وانتشار الأوبئة، وتفشي المناكر والفواحش. وهذا مع نجاح حركة الغزو الصليبي في القضاء على آخر معاقل الوجود الإسلامي بالأندلس وانتقالها إلى الاستيلاء على عدة مواقع أو أراضي ساحلية مغربية، وذلك في غياب أي مقاومة جادة من الدولة المغربية.
ولقد شكل قيام الدولة السعدية بارقة أمل في تدارك تلك الأوضاع، ولكن ذلك لم يكن بالأمر السهل. فبالرغم من الإصلاحات التي قامت بها السلطة السعدية والنصر الذي تحقق لها في معركة وادي المخازن على الإسبان والبرتغال، فحجم الأزمات التي مرت بها البلاد المغربية تركت آثاراً عميقة في النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي صعب تجاوزها في فترة وجيزة. إن ميزان القوى كان في صالح الأطراف الأوروبية التي كانت تعيش البدايات الأولى لعصر النهضة، وكان طموحها قوياً في تحقيق المزيد من النفوذ السياسي والاقتصادي في الجزء الغربي من حوض البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وبلاد السودان. وهزيمة وادي المخازن كانت مجرد عثرة نجحت إسبانيا والبرتغال تدريجياً في تداركها. وإبان العهد السعدي تراجعت مكانة مدينة فاس على المستوى السياسي، بعد أن جعلت الدولة الجديدة من مراكش عاصمة لها. هذا التحول دعم دور مراكش الاقتصادي وجعلها تنافس فاس على المستوى الثقافي والديني.
إن أهمية كتاب "حديقة الأزهار" بما هو مصدر لجانب من تاريخ مدينة فاس في مطلع العصر الحديث تتأكد لكونه صنف من زاوية لها مميزات خاصة تميزه عن المصادر المتداولة والتي اعتمدتها الدراسات التي همت فاس في تلك الفترة. هاته المصادر التي غلب عليها الاهتمام بالأحداث أو بالترجمة للشخصيات العلمية أو الصوفية، أو الوقوف عند الظواهر الاجتماعية والاقتصادية من زاوية فقهية. إضافة إلى مصادر غلب عليها الطابع الجغرافي أو الاستكشافي حررها مغاربة أو أجانب. هذه الأخيرة تقترب في أسلوبها نسبياً من أسلوب الكتاب الذي هو موضوع دراستنا، لأن أصحابها اعتمدوا في الغالب أسلوب الملاحظة المباشرة والملموسة، ويمكن أن نذكر هنا نموذجاً هو كتاب "وصف إفريقيا" للحسن الوزان الفاسي المعروف بليون الإفريقي.
لقد سبقت الإشارة إلى أن محور اهتمام الغساني في كتابه هو التعريف بالنباتات. والذي يجب أن ننبه عليه أنه لم يقتصر في عرضه على الأصناف الطبيعية والبرية، بل تعداها إلى ما اصطلح على تسميته في كتابه بالأصناف البستانية التي كان للإنسان دور في زراعتها والعناية بها. فالحبوب والقطاني والخضار والفواكه والثمار كانت موضع عنايته وإن بدرجات متفاوتة، لأنها هي أيضاً لا تخلو من منافع طبية حرص الأطباء وعلماء النبات القدماء منذ عهد الإغريق على حصرها. وهو أمر تراجع عنه علماء النبات المحدثون بعد استقلالهم عن علم الطب، إذ انصب اهتمامهم على حصر وصف النباتات الطبيعية والبرية والتعريف ببيئتها.
إن الغساني في معرض شرحه ووصفه لتلك المواد وتحديده لخواصها ومنافعها الطبية، يستطرد في كثير من الأحيان ليحدد أسماء مواقع لعدد من تلك المواد، خصوصاً تلك التي وقف عليها بنفسه، فيصف البيئة الطبيعية التي تظهر فيها. وإذا كانت لتلك المواد استعمالات أخرى في حياة الناس غير الاستعمالات الطبية، فهو يذكرها. وبحكم أن عدداً كبيراً من الاستطرادات يهم موادّ توجد لها عينات بمدينة فاس أو أحوازها، فهي معلومات ذات أهمية لا يستهان بها، إذ تكشف عن جوانب أغفلتها المصادر الأخرى، أو أن بعض هذه المعلومات يكمل أو يعضد مثيلات لها في تلك المصادر. وسنبدأ في عرضنا لهذه المعلومات بتلك التي تخص المحيط والبيئة الطبيعية التي تميز موضع مدينة فاس وأحوازها القريبة.





    رد مع اقتباس