عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-12-22, 15:17 رقم المشاركة : 1
أشرف كانسي
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية أشرف كانسي

 

إحصائية العضو








أشرف كانسي غير متواجد حالياً


وسام المشاركة

وسام الرتبة الأولى في مسابقة طاكسي المنتدى لشهر يو

وسام المرتبة الاولى لصناعة النجاح عن ورشة التفوق ه

وسام المراقب المتميز

الوسام الذهبي

مسرحية : سالم وبلاد العباقرة


"ما أقسى أن يتألم الذين نحبهم، ونحن عاجزون عن تقديم ما يخفف آلامهم" ردّد الولد سالم هذه العبارة، ودموع حزن تغادر عينيه.. تمشَّى مبتعداً عن بيت أهله، حيث يرقد والده مريضاً يئن من الألم.. لقد حضر أكثر من طبيب لمعالجته.. قدّموا النصح والأدوية ولا جدوى.. اجتمع إلى جواره الأهل والأقارب.. وما يزيد الأمر سوءاً بكاؤهم عند سريره.. أبو سالم يتألم، وسالم يتمنّى لو يقاسم والده آلامه ومرضه.. إنما الأمنيات أمر، وتحقيقها أمر آخر.. بين خواطره وأمنياته غاب سالم في شرود.. وما أفاق من شروده إلا عند مشارف الغابة المجاورة.. كان الوقت غروب الشمس.. والغابة المكونة من عشرات أشجار السنديان المتماسكة بدأت تخلع ثوب النهار لترتدي حلة الليل السوداء..
فجأة بدا لسالم أمر غريب مدهش.. رأى إبهاراً نورانياً عند مشارف الغابة.. خاف.. أراد أن يصدر لساقيه أمر الهروب بعيداً. إلا أنه فوجئ بمخلوقين غريبي الشكل يقفان أمامه، لكل منهما قامة قصيرة لا تتجاوز المتر تقريباً. ورأس كل منهما خالٍ من الشعر تماماً، وملامحهما تكاد تتطابق.. ويغطي جسد كل منهما ثوب أخضر.. لم يعرف سالم الخوف كما عرفه حينها. حتى إنه بدا عاجزاً عن الحراك والبكاء والكلام. صدر عن أحدهما ما يشبه الكلام، إنما بسرعة كبيرة جداً، لم يتسنّ لسالم معها فهم أي كلمة فلم يرد.. عندها أدرك أحد المخلوقين السر، وبسرعة كبيرة غاب ثم عاد، ومعه جهاز صغير جداً.. وعندما تكلم من جديد كان حديثه مفهوماً واضحاً..
خاطبه الكائن الغريب: عرّفنا على نفسك..
قال سالم بخوف شديد: من أنتم أولاً؟ وماذا تفعلون هنا؟
ردّ الكائن الغريب: اسمي ت 8، ورفيقي ت9.. نحن من كوكب العباقرة.. كان أجدادنا على الأرض منذ زمن بعيد، واستطاعوا بفضل عملهم أن يصلوا إلى الكوكب الذي نعيش عليه الآن.. وهو كوكب غني جداً بكل شيء.. بثرواته، بطبيعته باستقراره.. أجدادنا كانوا أصحاب حضارة متفوقة على الأرض وعندما تعرفوا ميزات كوكبنا الجديد، وآلمهم ما يحدث على الأرض من كوارث وحروب ودمار، بنوا سفينة فضاء وانطلقوا بما يحتاجونه من معدات.. وكان عددهم قليلاً.. عشرة رجال وعشر نساء.. أقاموا مختبراتهم على كوكبنا البعيد، وبفضل علمهم أصبحنا على ذلك الكوكب أصحاب حضارة تفوق تلك التي على الأرض مرات ومرات.. علماً أن كوكب العباقرة ما كان مسكوناً قبلهم.. بالمناسبة، لن أكمل قبل أن تخبرني لماذا تبدو مضطرباً؟ من أنت؟
-رد سالم: اسمي سالم- عمري أربعة عشر عاماً.. أقيم مع أهلي في ذلك البيت الحجري القديم، ويحزنني مرض أبي.. إنه يتألم.. يتألم ولم نستطيع تقديم ما يخفف ألمه.. أرجوكما هل بإمكاننا مساعدته؟ قلتما حضارتكم تفوق مرات ومرات حضارة أهل الأرض.. لا شك أن بإمكانهم مساعدته.. حاولا من أجلي أرجوكما..
قاطعه ت8: لقد استطعنا هناك التخلص من الأمراض.. لا آلام ولا علل على كوكبنا.
تابع ت9: بالتأكيد نستطيع مساعدة والدك.. إنما لنا شروط.
قال سالم بلهفة: أوافق أياً كانت الشروط.. المهم أن يتخلص من آلامه ويعود سليماً معافى.. وتعود البسمة إلى وجهه الحبيب.. أرجوكما، إنني مستعد للتضحية بعمري من أجله..
تبادل ت8 وت9 النظرات، ثم نزعا الجهاز الصغير الذي يجعل حديثهما واضحاً وأخذا يتخاطبان بسرعة هائلة.. وقف سالم حائراً. وبعد قليل أعيد تشغيل الجهاز.
قال ت8: إن أعدنا إلى والدك عافيته وستمضي معنا إلى كوكبنا.. وتقيم في ضيافتنا ثلاثة أشهر.. ماذا قلت؟
قال سالم: ماذا؟ أمضي معكم ثلاثة أشهر؟ ولكن ماذا ينفعكم وجودي؟!
رد ت9: قلت إنك مستعد للتضحية.. أم أنك نسيت آلام والدك..
وبلهفة كبيرة قال سالم: أمضي معكم حيث تشاؤون.. لكن أرى أبي أولاً سعيداً بشفائه..
قال ت8: لك ما تريد.. أخبرنا الآن ما هي الآلام التي يعاني منها والدك ثم امض إليه وأحضره إلى طرف الغابة.. ولا يأتي معه سواك.. وبعد لحظات يعاد والدك إلى البيت وقد تخلص من آلامه إلى الأبد.. هيا، تحدث عن مرضه وألمه ثم انطلق وعُد به فوراً. لا تتأخر.. وإياك أن تخبر أحداً بوجودنا.. قص سالم على مسامعهما قصة مرض أبيه، والآلام التي يعاني منها وما قال الأطباء حول حالته. وبعدها انطلق بسرعة قصوى نحو بيته.. وحين وصل اقترب من والده.. ورجاه أن يقبل بالمضي معه إلى طرف الغابة بمفرده.. وحين بكى سالم، أحس والده برغبة في تحقيق ما يريد.. فطلب من الجميع أن يتركاهما يمضيان وحدهما، مدعياً أنه يريد أن يتمشى قليلاً برفقة ولده سالم..
سار أبو سالم متكئاً على ذراع ولده.. وحين وصلا إلى طرف الغابة، أجلسه سالم على صخرة.. وبسرعة خاطفة تقدم منه ت8، حتى أن أبا سالم لم ينتبه لوجوده.. نظر إليه ت8 وغاب قليلاً ثم عاد، وقدم لسالم زجاجة صغيرة.. وأمره أن يسقيها لوالده في الحال.. بدوره قدم سالم الزجاجة لوالده، وتوسل إليه أن يتجرعها ففعل الأب.. وما هي إلا لحظات قليلة حتى أحس أبو سالم بالقوة تسري في جسده وغادره الألم.. وقف.. نظر إلى نفسه. ثم عاد إلى ولده سالم. أحس بفرح كبير.. وأخذ يصيح الحمد لله.. لقد شفيت. شكراً لك يا ولدي.. ولكن أرجوك أخبرني ما السر؟.. ما الذي حدث..
لم يجب سالم. إنما ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه، وانتهز فرصة انشغال والده بحيويته الجديدة.. وتركه وحيداً ومضى. كان الليل حل، وسالم اختفى وسط عتمة الغابة.. أحس الوالد باختفاء سالم، فناداه بصوت خفيض بداية: سالم.. سالم فأتاه صوت ولده من بعيد: وداعاً يا أبي، وداعاً..
خاف الأب كثيراً.. أراد أن يجري داخل الغابة، غير أنه سمع هديراً مختلفاً عن صوت أي مركبة يعرفها.. ثم ارتعد وهو يرى ظلام الغابة يتحول إشعاعاً وهاجاً.. وبعدها أخذ يرقب جسماً كروياً متوهجاً انطلق من طرف الغابة الآخر وأخذ يعلو بسرعة خاطفة.. حتى أن أبو سالم لم يستطع تبيان ملامح هذا الجسم الكروي الغريب.. إلا أن إحساساً بالحزن والأسى راوده وقد تيقن أن ولده على متن ذلك المركب الغريب فأخذ يعدو باتجاه بيته مذعوراً. وحين وصل سأل الحاضرين: ألم يعد سالم!؟
***
تجاوز المركب مسافات كبيرة جداً خلال زمن قصير. كان ت8 وت9 يراقبان من حجرتهما تصرفات سالم الذي بدا مضطرباً خائفاً وهو في حجرته المستقلة المغلقة. وصله صوت ت 8: ليس المهم أن تراني.. اسأل ما بدا لك. فقد بتنا على وشك الوصول..

قال سالم: أريد أن أعرف كيف تمكنتم من علاج والدي بهذه السرعة؟ ثم لِمَ اصطحبتموني معكم؟ ماذا يفيدكم وجودي؟.. وهل سأعود فعلاً لأرى أهلي من جديد؟
أجاب ت8: بالنسبة لعلاج والدك.. لقد تمكنا على كوكبنا من التخلص من الأمراض كما سبق وقلت لك، فنحن نمنح جهاز المناعة في الجسم قوة تساعده على التخلص من المرض.. لا شك أنك تعلم أن في جسم كل كائن جهاز مناعة يحارب المرض، عندكم أحياناً يتغلب المرض على هذا الجهاز فيصاب الجسم أما نحن فنمنح القوة -كما قلت لك- لهذا الجهاز فيغدو قادراً على قهر أي مرض حالاً.. إنه دواء اكتشفه أحد علمائنا ومنه أعطينا والدك.. فنحن نعطي كل جسم مقداراً يتناسب مع قدرته على التحمل..
أما عن وجودك فهو يفيدنا كثيراً يا سالم.. ولو لم نحضرك لأحضرنا غيرك.. نحن على كوكب العباقرة، ورغم تقدمنا الذي لا مثيل له نريد أن نتعلم منكم أمراً مجهولاً تماماً لدينا. وأما عن عودتك فنحن دائماً ملزمون بأية وعود نقطعها.. ستعود أجل.
قال سالم مستغرباً: ما الذي يمكنني تعليمكم إياه؟
رد ت 9: نريد أن نتعلم معاني التضحية.. الحب الفرح.. الحنين.. لقد عمد أجدادنا إلى إحداث تغييرات في طبيعة تكويننا، في بناء أجسادنا.. فقاموا بتعطيل المراكز والخلايا المسؤولة عن الأحاسيس والمشاعر منذ القديم وأصبحت أجيالنا تنشأ كالآلات دون أحاسيس.. لقد تعرفنا على هذه الأحاسيس من خلال وفد زار كوكبكم منذ سنتين، فتدارسنا إمكانية وأثر إدخالها إلى عالمنا من جديد، وتأكد لنا أن الأحاسيس ركن هام وجميل من أركان الحياة.. ستجري عليك بعض الاختبارات، علنا نستطيع التوصل إلى ما يبعث مشاعرنا وأحاسيسنا..
كان سالم ينصت باستغراب، وسأل: هل ستجرون على جسدي تجارب؟ اسألوني إن شئتم وأنا أجيب على أي سؤال.
تابع ت 9: نعدك ألا تصاب بأذى.. سنراقب علمياً تفصيلياً خلايا جسدك.. وأنت، استسلم لمشاعرك.. افرح لشفاء والدك، واحزن لفراق أهلك، واغضب لأنك هنا بلا أصدقاء، واشعر بالشوق لأهلك جميعاً، لأنك ضحيت من أجل من تحب.. نحن سنراقب أحاسيسك.. ومركز الإحساس والخلايا المسؤولة عنها.. سنراقب دماغك ونخاعك الشوكي للتعرف على الأحاسيس منذ تكونها وحتى اكتمال نضجها.. ثم نقوم بانتزاع خلايا من جسدك، علنا نتمكن من معالجتها واستكثارها بما يضمن إدخالها من جديد إلى أجيالنا المقبلة.
قال سالم: ولكن قلتم أن أجدادكم كانوا على الأرض.. أي أنكم بشر مثلنا. فلماذا عمد أجدادكم إلى إلغاء المشاعر والأحاسيس من حياتكم؟!
رد ت 8: برّروا ذلك بأن المشاعر هي المسؤولة عن الكوارث والدمار والحروب التي حدثت على الأرض.. واعتقدوا أننا بذلك سنحقق ثورة علمية وحضارة لا تفوقها حضارة ونعيش بلا متاعب على كوكبنا الجديد.. والحقيقية توصلنا إلى هذه الحضارة إلا أننا أصبحنا كالآلات.. الحياة المتكاملة، وعندما يلغى جانب منها يؤثر سلباً على النواحي الأخرى.. الآن عليك أن تستعد.. منها نحن على وشك الهبوط على كوكبنا. سأفتح إلى جوارك نافذة يمكنك أن تلقي نظرة إن شئت.. فجأة، فتحت نافذة صغيرة عند رأس سالم.. نظر من خلالها فبدا له كوكب العباقرة صغيرا، جميلاً.. مختلف الألوان.. وعندما اقترب أكثر شاهد نماذج أبنية لم ير مثلها من قبل.. كانت كل مجموعة من البيوت محاطة بسور ضخم.. أما داخل السور فلها أشكال المثلث والمربع والدائرة وثمة أشكال هندسية أخرى..
لم ينتبه سالم لتوقف المركبة.. لقد حطت على برج عال بكل هدوء وأمره ت8 بالاستعداد للمغادرة.. وحين غادروا المركبة انتقلوا بسرعة خيالية إلى منزل بعيد.. كان سالم يشعر برغبة كبيرة في النوم، فتركه ت8 وت9 ومضيا نحو مختبر كبير، استعداداً للبدء بالعمل. وبسبب حالة النعاس الشديدة التي أصابت سالماً فقد استمر في إغفاءته ست ساعات، لم يكن سالم يعلم أنها تعادل يوماً كاملاً على كوكب العباقرة.. فاليوم على هذا الكوكب لا يتجاوز ست ساعات..
حين استيقظ جاءه صوت ت8: المنزل مجهز بما يلزم، كل ما تحتاجه. أما عن الطعام فستجد علبة أقراص على الطاولة.. تناول كل يوم قرصاً واحداً..
قال سالم: ماذا؟.. الطعام أقراص! ثم فتح العلبة، وضحك سخرية.. فجاءه صوت ت 8 من جديد: تناول أحد هذه الأقراص الآن وبعدها أخبرني إن كنت بحاجة للطعام. هز سالم رأسه غير مقتنع، تناول قرصاً وابتلعه.. بعد قليل انتابه شعورٌ غريبٌ.. أحس كأن معدته امتلأت بأشهى المآكل التي يحبها..
خاطبه ت 9: والآن ما رأيك بوجبة دسمة؟
قال سالم: لا.. لا: إنني ما عدت جائعاً.. لقد شبعت...

دخل سالم الحمام، واغتسل ثم عاد وجلس على كرسي مثبت..
حدثه ت 8: قبل أن تباشر العمل، سنريك عالمنا.. ستطلع على كوكبنا بالتفصيل وأنت في مكانك. تبدت أمام سالم شاشة عرض، أخذت الصور تتلاحق.. رأى بداية مشهداً للمجرة الكونية وإشارتين ، إحداهما إلى الأرض والأخرى إلى كوكب العباقرة.
قال ت8: إن كوكبنا ينتمي إلى المجرة التي تنتمي إليها الأرض.. لا زال هناك الكثير من الأجرام الفلكية لم تكتشف بعد، وتحتاج جهداً كبيراً.. إلا أن المسافة التي تفصلنا عن كوكب الأرض بعيدة، فنحن في الجهة المقابلة لها بعد الشمس.. والآن سترى حياة كوكبنا بالتفصيل.

تتابعت الصور أمام عيني سالم.. رأى صوراً لكوكب العباقرة خلال صيف وشتاء وهما الفصلان الوحيدان المعروفان على هذا الكوكب.. ورأى حلول الليل والنهار ثم صور مختبرات ضخمة تنتشر على أرجاء الكوكب، وحركة الكائنات عليه.. لم ير أسواق بيع وشراء، فوضح له ت8 أن احتياجات الكائن هنا تصله إلى مكان إقامته علماً أن الطعام اليومي لكل كائن قرص كالذي تناوله سالم.. الجميع هنا يفكرون، يعملون.. ومما أثار فضول سالم رؤية مبان عملاقة مصنوعة من الزجاج، تبين له أنها ليست معدة للسكن، إنما هي أحواض زراعات، وحظائر حيوان.. لاستخراج المواد المكونة للأقراص المغذية.. وتوفير مصدر الأكسجين..
دهش سالم كثيراً مما رأى، وبعد زمن قصير جاءه صوت ت8، عليك الاستعداد للبدء بالعمل.. سيفتح أمامك باب، ادخله.. واجلس على كرسي ستجده أمامك داخلاً.. ثم سيهبط ببطء جهاز كالخوذة يحتضن رأسك.. لا تخف لن نسبب لك أي أذى.. فقط استسلم لأفكارك بعد أن يحل الجهاز على رأسك.. فكر بشفاء والدك، إنه معافى والبسمة رفيقة وجهه، ربما كان حزيناً لأجلك، إنما سيزول حزنه عندما تعود قريباً إليه.. لقد وعدناك أن إقامتك ثلاثة أشهر.. وهي تعادل أقل من شهر على كوكب الأرض.. هيا نفذ.
أطاع سالم الأوامر.. نفذ ما طلب منه بدقة.. حتى أن الخوف بدأ يغادره رويداً رويداً.. وعندما كان الجهاز يحتضن رأسه أخذ يتذكر السبب الذي من أجله أتى إلى هنا إنها الآلام التي كان والده غارقاً بها.. لقد وفر لوالده الشفاء بفضل تضحيته.. سر كثيرا بهذه التضحية..
في اليوم التالي أعيد سالم إلى الكرسي ذاته.. بل إلى الوضع نفسه تماماً.. ويومها استحضر صور أهله وأحبته.. ثارت أشواقه إليهم.. أحس بحزن كبير لفراقهم وتمنى لو يحل اليوم الذي يعود ليلتقيهم من جديد..
وتتالت الأيام.. اعتاد سالم وضعه على ذلك الكرسي.. وكما أراد ت8 وت9 تبدلت أحاسيسه بين فرح وحزن، وشوق، وغضب.. وكل المشاعر التي يمكن للإنسان أن يعرفها.. وفي الأيام الأخيرة أخذ يبكي دموع اشتياق لأمه وأبيه واخوته وأحبته..
قبل اليوم الأخير من إقامة سالم على كوكب العباقرة فوجئ بصوت ت8 يبلغه: لقد انتهى العمل سترحل غدا عائداً إلى الأرض.. أما اليوم فقد أعددنا برنامجاً ختامياً لزيارتك استعد. سيأتيك من يحضرك إلينا.
وخلال لحظات قليلة، فتح الباب، الخارجي للمكان الذي يقيم فيه سالم.. ورأى مركبة كروية صغيرة.. أشير إليه أن يدخلها ففعل.. كان لهذه المركبة نوافذ بحيث أمكنه رؤية مركبات كثيرة مثلها تنتقل في الهواء بسرعة كبيرة، وكأنما تسير على طرق ومسارات دون أية حوادث.. اقتربت مركبة سالم من نافذة إحدى الأبنية العملاقة، فُتحت النافذة وتوقفت المركبة عندها.. ثم خرج منها جسر انزلق داخل المكان، فغادر.. أخذوا ينظرون إليه بعيون مسددة، ويتبادلون أحاديثاً لم يستطع فهم أي كلمة منها وقف في الصدارة ت8 وكأنما هو قائد الجميع أشار إليهم أن ينصتوا ثم قال مستخدماً.
جهاز الإبطاء: لقد تمت التجربة بنجاح.. نفذتَ ما طلب منك بشكل جيد.. ونحن سنحاول أن ندخل تعديلاً على أجيالنا القادمة بحيث يعرفون ما خفي عنا.. ويحسون ما لم ندركه من مشاعر.. بالتأكيد ستكون حياتهم أروع من حياتنا فنحن رغم ما ننعم به من تقدم إلا أننا نفتقد جزءاً نعتقد أنه كبير جداً.. وسنحاول إعادته إلى تكوين أجساد أجيالنا من جديد.. والآن: ما الذي لفت انتباهك أكثر في حياتنا؟
أجاب سالم: كل شيء.. كل شيء.. رأيت كل جديد.. ما أثار استغرابي السرعة التي تتميز بها حياتكم.. سرعة في الحركة، في الكلام، في تنفيذ ما ترغبون به.. حتى أن يومكم سريع.. وأردت أن أسألكم: كيف تعيشون؟ أليس لكل منكم أب وأم وأخوة.. أسرة؟
رد ت8: أما عن السرعة، فهي أحد الأدلة على تطورنا وحضارتنا الكبيرة.. علماً أن هذه السرعة منتظمة.. فالوقت هام جداً ويجب أن يحسن استغلاله ما أمكن.. وأما من حياتنا والروابط الأسرية، فأقول قد يحدث هذا عندما تعود إلينا المشاعر.. الحقيقة لا توجد أية روابط أسرية تجمع بيننا.. فالحمل والولادة، وكل شيء يتم في المراكز العلمية.. يربى الواحد منا حتى يغدو قادراً على الانتقال إلى المرحلة الثانية في الحياة.. ثم المرحلة الثالثة.. وهكذا.. المهم.. لا تشغل بالك بنا.. ستحسن حياتنا بالتأكيد.. هيا، استعد.. فبعد زمن قصير ستنطلق في رحلة العودة إلى الأرض.. تقدم منه ت9 قائلاً: حتى أسماؤنا.. كل منا يُلقّب بحرف وعدد مرافق.. هذه هي أسماؤنا هذا ف1 وهذا ف4 وهذا س6.. وهكذا.. والآن لقد اتفقنا على تقديم هدية لك مكافأة على ما قمت به من أجلنا..
قال سالم: لقد نلتُ مكافأتي قبل حضوري.. أريد العودة فقط.
خاطبه ت 8: لا بد من قبول الهدية.. شريط صغير عليه تسجيل لطريقة تحضير علاج وتقوية جهاز المناعة في الجسم. فهذا سيساعدكم كثيراً في التخلص من الآلام. وسأعلمك طريقة الاستفادة من هذا الشريط.. تعلم سالم كيفية الاستفادة.. وتسلم الهدية..
وفي الصباح كانت المركبة بانتظار سالم.. وحين استقر داخلها انطلقت بسرعة كبيرة، متخذة مسار العودة، مجتازة الملايين من الأجرام والنيازك والشهب. وحين دخلت المركبة مجال الأرض كان سالم يجلس منتبهاً.. بعد قليل، جاورت المركبة حدود الغابة.. ثم حطت عند طرفها بسلام، وفتح بابها فغادرها سالم فرحاً..
وعندما انطلقت المركبة عائدة أخذ سالم ينظر إلى نفسه كأنه غير مصدق ما حدث ثم ما لبث أن جرى نحو بيت أهله.. دخل البيت.. كان عدد كبير من أهل القرية يجتمعون في بيت الأسرة كأنما يعزون أبا سالم بولده.. وعندما رأوه، استغربوا جميعاً. حتى أن أمه أغمي عليها.. أسرع والده يتلمسه ويقبله.. كان سالم مجهداً فقال: إنني بخير.. بصحة جيدة.. كل ما في الأمر أنني متعب.. أرجوكم اتركوني أخلد الآن للراحة.. بعدها أحدثكم بما جرى.. رافقه والده إلى غرفته، أجلسه على السرير.. ثم قال له: ربما كنت أعرف شيئاً مما حدث.. لكن أرجوك يا ولدي، قبل أن تحدث أحداً بشيء أطلعني على ما ستبوح به فهناك الكثير من الأمور الصادقة علينا ألا نتفوه بها لأحد.. لأنها أمور غريبة قد يتهم قائلها بالجنون.. أو الكذب.. وأعتقد.. أعتقد أن حكايتك من هذه الأمور..
قال سالم: يهمني أن تعرف أنني غبت من أجلك.. من أجل آلامك، والحمد لله ها أنت عدت سليماً معافى.
قال أبوه: فكرت في هذا.. علماً أنني ما استطعت تفسير ما حدث.. والمهم أنك عدت والحمد لله على سلامتك.. إنما هل تعدني بما طلبته منك؟
رد سالم: أعدك يا أبي.. ولكن معي هدية من المكان الذي كنت فيه. أعتقد أنه سيكون لها شأن كبير بين الناس.. ويجب علينا تقديمها لمركز علمي، أو لطبيب قال أبوه: سنتفق على هذا.. أجل سنتفق.. المهم الآن اخلد للراحة.. نم واسترح وعندما تستيقظ تذكر أنك وعدت والدك أن يكون مفتاح سرك..
ابتسم سالم.. وابتسم أبو سالم.. تعانقا من جديد.. وأخذ الأب يمسح بحنان رأس ابنه سالم الذي استسلم لنعاسه وكاد يغفو.. ثم سار متثاقلاً نحو سريره.. وما هي إلا ثوان حتى كان يغط في نوم عميق عميق..

الكاتب: سامي محمود طه





التوقيع




" أن تنتظر مجرد الثناء على فعلك التطوعي، فتلك بداية الحس الإنتهازي ''
محمد الحيحي

    رد مع اقتباس