شكرا لك أختي الفاضلة على هذا البحث المهم والراقي علميا ، وتعزيزا وتمديدا أضيف إلى بحثكم القيم مايلي :
إذا كانت الابستمولوجيا تقوم على التعرف إلى آليات تكوين العلم الحديث وأسسه وأبعاده المعرفية و القيمية..، فإن هناك تداخلا بين الابستمولوجيا وعلم المناهج و العلوم الإنسانية..كما أن هناك صلات ضمنية أو صريحة تربطها بالفلسفة كما يقول روبر بلانشاي في كتابه عن الابستمولوجيا.
و لأن الابستمولوجيا تفكير بالعلم؛ فإنها تدخل في "ما بعد العلم" وربما كانت علاقة الإبستمولوجيا بنظرية المعرفة – مبدئيا - علاقة نوع بجنس؛ إذ تقتصر الإبستمولوجيا على المعرفة العلمية وحدها.
وربما أفلتت شيئاً فشيئاً من الفلاسفة؛ لتصبح في أيدي العلماء.. وربما امتدت في منطقة وسطى بين العلم والفلسفة متوسعةً على الجانبين؛ فهي ـ أساسا - دراسةٌ عقدية لمبادئ مختلف العلماء وفرضياتها ونتائجها وبقدر ما يتولد التفكير الإبستمولوجي من عوائق العمل العلمي؛ فإنه يظل قريباً من هذا العمل بما فيه من خصوصية..
ولهذا سنعرف بالابستمولوجيا قبل وبالروابط التي تصل الابستمولوجيا بكل من الفلسفة و العلم. تعريف الابستمولوجيا
يعرف المعجم الفلسفي - الصادر سنة 1983 عن مجمع اللغة العربية لجمهورية مصر العربية - الابستمولوجيا بأنها دراسة نقدية لمبادئ العلوم المختلفة، وفروضها، ونتائجها، وتهدف إلى تحديد أصلها المنطقي و قيمتها الموضوعية. وتطلق في اللغة الانجليزية على نظرية المعرفة بوجه عام. يقول رونز:"الابستمولوجيا أحد فروع الفلسفة الذي يبحث في أصل المعرفة، وتكوينها، ومناهجها و صحتها".
ويبدو أن الكلمة كانت مستعملة للمرة الأولى عام 1906 (ملحق اللاروس المصوّر) ومنسوخة عن اللفظة الإنجليزية التي قد يكون ابتكرها جميس ف. فيريه، الفيلسوف الإيقوسي، في كتابه مجموعة مبادئ الميتافيزيقا (1854). ولكن المعنى الأنغلوساكسوني هو معنى "نظرية المعرفة بصورة عامة" أكثر مما هو "نظرية العلم"؛ أما اللفظة الإيطالية المقابلة فهي، على العكس، متخصّصة على وجه الدقة بفلسفة العلم وتدلّ، بهذه الصفة، على جزء من أجزاء أو نظرية المعرفة. ومصطلح "فلسفة العلوم" الفرنسي، يستخدم مرادفاً للإبستمولوجيا استخداماً شائعاً.
ومن المناسب أن نعترف بثلاث مناطق حدودية للإبستيمولوجيا:
- تاريخ وعلم اجتماع العلوم: اللذين تجاورهما من حيث أنها تتّخذ العلم موضوعاً، العلم في واقعه المشخّص والمحدّد من الناحية التاريخية.
- المنطق الصرف: التابع لها لأنه يصف أشكال البناء العلمي.
- النظرية العامة للمعرفة: التي تحدّدها الإبستيمولوجيا بوصفها بحثاً في أسس العلم.
وتاريخ بروز الإبستيمولوجيا، بوصفها فرع معرفة خاص، هو تاريخ علاقاتها مع هذه الميادين الثلاثة.
ويمكننا القول إن الفلاسفة اهتمّوا بالعلوم، حتى القرن التاسع عشر، دون أن تكون الإبستيمولوجيا مطروحة بعد في مجال البحث: ففرانسيس بيكون، و ليبنز، و كانت، هم الذين أسهموا، بهذا الصدد أكبر إسهام في منح فلسفة العلوم نظاماً أساسياً. وفلسفة أوغست كونت الوضعية هي التي دشّنت الإبستيمولوجياً.
الابستمولوجيا بين الفلسفة و العلم
لعل ما حققته علوم الطبيعة من نجاحات باهرة سيما في مجالي الفيزياء والكيمياء كان مدعاة للتراجع الحاصل في مضمار الفلسفة بعد أن كانت هذه الأخيرة أماً للعلوم والمحدد لها في النظام العام للفكر الإنساني .. لكن ـ منذ القرن التاسع عشر ـ طفقت تلك العلوم تنفصل عن أمّها حتى قال أوغيست كونت :" آن الأوان لنحد من غرور الفلسفة " ، وحجم عملها وأناط بها فقط مسؤولية تنظيم العلوم وتنسيق نتائجها .. غير أن تلك المهمة ما برحت تنحسر بعد أن استبدل الانجلوسكسونيون الفلسفة بالمنطق واطمأنوا إلى تقليده تلك المهمة.
يمكن القول إن استقلال العلوم عن الفلسفة نجم عن اعتماد تلك العلوم على الرياضيات التي لا تحتاج إلى علل ما ورائية لكي تكون يقينية.. بخلاف ما كان ما يظنه أرسطو من "إن حقيقة الموجودات تكمن في عللها القصوى" . من هنا ميز كانت بين الأحكام الرياضية والأحكام الماورائية وأسبغ المشروعية على الأولى فيما وصم الثانية بالسببية في تكوين أوهام العقل ، وبقول آخر فان العلوم تهتم بالكيفية التي تجري بها الأحداث لا بأسبابها وعللها القصوى التي هي مركز البحث الفلسفي المبني دائما على السؤال : لماذا ؟ كانت الابستمولوجيا في الماضي تعرف بكونها خطابا فلسفيا حول العلم أي مجرد كلام حول أصول العلم ونتائجه، فيما صار معناها بعد انفصال العلوم عن الفلسفة إلى خطاب علمي حول العلم أو دراسة علمية للعلم أو تسمى علم العلوم. فيما خلصت النظرة العلمية الجديدة إلى إسباغ معنى أكثر جدوى على الابستمولوجيا عندما وسمتها بأنها بحث نقدي في مبادئ العلوم وأصولها وأهدافها وعلاقتها بالإنسان والمجتمع والطبيعة .. لكننا يجب أن نستدرك فيما إذا اعتبرنا الابستمولوجيا ـ كنظرية منطقية تضبط أسس وقواعد علم ما ـ هي ذاتها علم ، لأنها والحال هذه تحتاج بدورها إلى نظرية أخرى تضبط أسسها وقواعدها وهكذا دواليك .. الأمر الذي يمنعنا من دراسة العلوم بذات رموزها وقواعدها لان محاولاتنا هذه تضطرنا إلى تجاوز أسس ذلك العلم للإحاطة بالظروف والمشكلات الناجمة عنه .
فالعالم يبقى عالما ما دام ينتج فرضيات ويجري تجاربه لغرض التأكد من صحتها ، لكنه يصبح ابستمولوجيا عندما يتساءل عن تأثير هذه الفرضيات وتجاربها على تصوراتنا للواقع والحقيقة .. لذلك تجاوز اينشتاين "..ممارسته الفنية للفيزياء ليتساءل عن مدى إدراكها للواقع ، وعن سر نجاعتها". فالابستمولوجيا ليست فلسفة إذا أردنا بها تلك الأفكار الفضفاضة والتصورات الفخمة التي يقصد منها تبرير نظرية ما مثل نظرية "المثل" لأفلاطون .. ولكنها فلسفة إذا نظرنا إليها على أنها "تفكير جدي ينبع من المشكلات الحقيقية التي تطرحها العلوم والتي تمس الإنسان ومكانته في الطبيعة والمجتمع".
إن أهم مشكل في الابستمولوجيا الحديثة هو أنها تطرح إشكالية علاقة العلوم بالواقع - الواقع الذي نحس به تلقائياً -، فقديما كانت العلوم فروعا للفلسفة التي تعد "صناعة الصناعات وحكمة الحكم" كما عند أرسطو الذي أخضعها إلى منطقه ، واعتقد بأنه منطق قار و أن علومه بالتالي قارة ومطلقة.
فقد بني المنطق الأرسطي على مبادئ ثلاث هي مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض والمبدأ الثالث المرفوع والتي اعتقد بأنها تعصم العقل من الخطأ .. ولعل من نافلة القول إن التجربة اليومية والعلاقة التلقائية بالواقع تؤيد هذه المبادئ .. لذلك فقد اخذ الناس شرقا وغربا بأفكار أرسطو وعلومه واعتبروها حقائق مطلقة ، فقد سماه العرب 'الحكيم أرسطو' ولقبوه 'المعلم الأول'، كما كان يعتبر مقياس الحقيقة إبان العصور الوسطى في الفلسفة المدرسية المسيحية التي سعت إلى عقلنة اللاهوت المسيحي .. بيد أنها انتهت أخيرا إلى حالة من الجمود والتحجر العقلي والتخبط الفكري مما حدا بعلماء عصر النهضة والعصور التالية إلى الإعراض عنها وإرساء أسس العلوم الطبيعية على العقل والمشاهدة الحسية والتجارب العلمية ، وهذا ما عرف بالنظرة العلمية القديمة التي تطورت لاحقا إلى مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة ويرفض كل ما هو غيبي ويبنى على أساس علل الضرورة والصدفة .. ثم انتهت هذه النظرة إلى الإلحاد والاستهتار بالقيم الروحية والأخلاقية وفسرت السلوك تفسيرا غريزيا فسيولوجيا .
وفي مطلع القرن العشرين برزت إلى الوجود نظرة علمية جديدة كان من المع روادها آباء الفيزياء الحديثة كاينشتاين و بور وغيرهم ، وأجمعت آراء هؤلاء العلماء على أن الكون قد بدأ في لحظة محددة من الزمن، فثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المادة ليست أزلية ، وآمنوا بعقل أزلي الوجود يدبر هذا الكون واسع الأرجاء ويرعى شؤونه .. ثم جاء جيل آخر من العلماء انتهوا من أبحاثهم إلى أن الإنسان مكون من عنصري الجسد الفاني والروح الخالدة.
وأخيرا ظهرت حركة جديدة في علم النفس تؤمن بالقيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والفكرية والنفسية .
وهكذا يتبين أن النظريات العلمية الجديدة ترفض الدراسات الأرسطية وتتحفظ على النظرة العلمية المادية ، و أن فحوى النظرة الجديدة هو دراسة المشكلات الابستمولوجية الأساسية .. القائمة على العلاقة بين النظريات العلمية بالواقع المحسوس ، وسر نجاعة تلك العلوم .. وحدود التفسير العلمي والكشف عن حقيقة تلك العلوم .. وأهدافها وموقع الإنسان والمجتمع في كل ذلك الخضم المتلاطم .
وختاما، يمكن أن نخلص إلى أن الابستمولوجيا ربما انشطرت علمية و فلسفية و داخلية و خارجية..، فإذا كانت الداخلية تأتي تحت أقدام العالم نتيجة مشكلات تطرح داخل علمه بالذات؛ فإن الخارجية تأتي غاية حاكمة لا محكومة تكتسب أهمية نظرية باعتبارها غاية، و ليست مجرد وسيلة؛ لتقترب من الفلسفة أكثر.