عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-03-09, 21:19 رقم المشاركة : 1
tagnaouite
أستـــــاذ(ة) مــــاسي
 
الصورة الرمزية tagnaouite

 

إحصائية العضو








tagnaouite غير متواجد حالياً


العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي هكذا تغيب النوارس


قصة قصيرة



هكذا تغيب النوارس



لم يكتمل أنسه بزيارته للبحر حين وقف ميمون يطل من فوق الصخـــور يعانق بنظراته أمواجه، مد بصره إلى كل اتجاه، فلم ير النوارس حاضرة، فتذكر لما حلقت فوق رأسه أول مرة عند أول عزف له بالبحر..


صاحت وقتها بصوت تجاوب مع أنغام عزفه وقد دبت نشوة تلك الأنغــام في أوصالها، فنزلت كأنها مسحورة تصافح بأجنحتها ومناقيرها صفحــــة الموج الصافية، فعلم ميمون أنه صار عازفا ماهرا بدون توجيه من معلمه حمان، وقلبه أصبح مستقرا ومستودعا لنغمة تاكنويت..


آذن الجو بمغيب الشمس، فغادر ميمون البحر والحسرة تسلمه لمنعطفات لا منتهى لها: كيف غابت النوارس؟ ..


وصل إلى وسط المدينة، فأرخى الليل أرديته.. دفع عنه زفرات حسرتـــه حين خالط سويداء قلبه أمل عودة النوارس، فتمطت ظلال وافرة من أيــام طفولته المرحة عندما أمسكه حمان آلة الهجهوج وهو لم يتم عقـــده الأول، ولما بلغ ميمون أشده عزف بفيض رقيق بمعاناة أولئك الزنـــوج جـــراء مالا قوه من غربة واستعباد.


كانت النوارس لا تفارق البحر، ولم تبخل بحضورها لتشهد عـــــلى أول عزف له، وما أشد اعتزازه بتملكه أسرار هذه الموسيقى حين أفلــــح في كسب عشقها بروحانية عذبة منذ زهرة ذلك الشباب .


توغل ميمون في دروب المدينة دون أن يفارقه أمر غيابها، فسمع أنغاما لمن يدعون بأنهم اكناويون..لم تستقم هذه الأنغام لأذنه، فتصـاعدت زفراته، فقال متبرما: فسدت الأذن، وأصالة نغمات الروح في طريـــــق احتضارها.. فهل يستسلم؟..


وحده يجيب: لن أسمح لميراث السابقين أن يضيع... تابع سيره، فأمســى الليل يكرمه بنسائمه على الرغم من شهر غشت.. خففت عنه هذه النسائم سعير زفراته في عمرجاوز فيه السبعين، لكن جسمه مازال متماسكا.


وصل بعد لحظات الى دار المعلم حمان، فاستراح قليلا عند العتبة ملتقطا شيئا من أنفاسه بما أفصح عن كثرة مشيه..


نظر إلى جدران الدار، فوجدها كما هي، في تآكل، وصباغة الجير قد انمحت عنها.. قال مسترجعا بعضا من أنفاسه: ذهبوا وذهبت معهم...


مات المعلم حمان ما يزيد عن ثلاثين عاما، لكن توقيعاته الوترية على آلة الهجهوج ماتزال تنفذ سحرا فريدا في أذن ميمون، وصدى نصائحه يتردد دائما:"اذا أحببت يا ميمون هذه الآلة، فستجدها طوع بنانك، تجري ســرا لذيذا في عروقك كالدم..".


يحفظ ميمون كل هذا، وما أشد نصائح المعلمين الأولين على صدره.. هي وقع ثقيل يضع الأمانة على كاهله.. انصرفت هذه اللحظات الذهبية مثــــل عزف قصير ممتع تلاشى بين عشية أو ضحاها..


لم تفتح دار حمان بعد موته لمدة ست سنوات، غير أن زوجته دأبت بعــــد موته على أن تنثر فيها عبق طقوس المعلمين السابقين، فيقصدها كل مـــن علمهم زوجها لإحياء ليال روحانية خالصة..


ماتت الزوجة، فأغلقت الدار.. وانتهى كل شيء.. نفذ احساس انتهاء كـــــل شيء في صدر ميمون مثل عاصفة تقتلع جذور شجر ناذر، فنهض عـــــن العتبة يصرخ: كلا.. لن ينتهي كل شيء..


لم يدر لحظتها أين يتجه، فيما ظل الليل بنسائمه اللطيفة، وقد كــــــــان في صالح رأس ميمون المشرف على الإنفجار..


رجع مرة أخرى زائرا للبحر.. تماهت أعصابه مع رذاذه، فأودعها قـــدرا كافيا من الهدوء.. انتبه ميمون في لحظة هدوئه الى ما صارت توحي إلـيه أجواء البحر.. كأن الأمواج تعرف سبب غياب النوارس.. كأنها تلومــــــه هامسة: "أنت يا ميمون من ساعد على غيابها.." .اقتنع ميمون بأنه الملوم، فلم يزرع روح الأصالة في أفئدة هذا الجيل من الشباب، فتركه بين مخالب المتطفلين، وربما لم يرق ذلك للنوارس. صار ميمون يردد: أنا الملوم.. أنا الملوم.


لن يلذ له النوم بعد هذا الذي اهتدى إليه، وها هو الليل بدأت خيوطــــــــــه السوداء تندثر حين خالطتها خيوط بيضاء من فجر جديد، وبعد برهة لاح ضوء النهار، فوجده يخترق ميناء المدينة.. سمع أناشيد الصيادين، لكنه لم يشاهد النوارس تنقض على صناديق السردين لتلتهمه بشراهة جنونيــــــة كعادتها.. نسي ميمون أن انهماكه بأمر غيابها لن يزيد ه الا تأنيبا لنفســـــه، فطاف بمحاذاة مراكب الصيد.. أضناه كثرة المشي وسهر الليل المؤرق ، فعاد مضطرا إلى بيته .


في طريقه داهمه ما غاب عنه حيناً من الدهر.. ماذا لو يذهب مسافرا الى ابن أخته بآسفي؟.. شاب ناضج اقترب الى الأربعين من عمره، علمــــــــه ميمون العزف على الهجهوج فأحسن تعليمه، وفوق ذلك هو متزوج بحفيدة معلمه حمان .. سيقترح عليه فتح تلك الدار، فتقام طقوس روحانية، فلابـــد من عودة النوارس.. لن تعود الى البحر الا إذا سمعت من يداوم العـــــزف بنغمة أصيلة، ستجود بلا شك بصياحها مع هدير البحر.


اندفع ميمون نحو بيته.. شعر بأن نشاطاً دفيناً ينبعث من داخله بقوة، فيفقده الصبر، ويجعله مثل ورقة يانعة تتمايل بين نسيم الصباح.




ـ انتهــــــت ـ


إبداع : محمد الزاكي





التوقيع

محمد الزاكي ( tagnaouite)

آخر تعديل tagnaouite يوم 2012-03-09 في 21:25.
 
    رد مع اقتباس