عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-17, 13:56 رقم المشاركة : 1
فصبر جميل
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية فصبر جميل

 

إحصائية العضو







فصبر جميل غير متواجد حالياً


وسام المشاركة في المسابقة الترفيهية

وسام المشاركة في دورة HTML

وسام التميز لشهر مارس 2012

العضو المميز لشهر يناير

c4 الهوية و الصراع النفسي




بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على أشرف المرسلين
سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام

مقدمة

قبل البدء بتناول علاقة الهوية بالصراعات والاضطرابات النفسية، فيجدر بنا أولاً توضيح مفهوم الهوية، والمراحل التاريخية التى تكون عبرها مفهوم هوية الفرد، فى علاقته بذاته أو ما يعرف بالهوية الذاتية، وفى علاقته بالموروث الثقافى، والحضارى، والاجتماعى، والبيئى، والسياسى، أو ما يعرف بالهوية الاجتماعية للفرد. ثم يتم التركيز على أيدولوجية الهوية، والأساس النفسى لهوية الفرد الذاتية، والاجتماعية، وعلاقتهما بنشأة الصراعات والاضطرابات النفسية لدى الفرد، ولا تقف وجهة النظر عند هذا فحسب، بل تمتد لتفسير دور هوية الفرد فى نشأة وتفاقم الصراعات، والاضطرابات النفسية لدى المجتمع ككل، والمعروفة بالظواهر الاجتماعية.


الجذور التاريخية لمفهوم الهوية

أولاً: مفهوم الهوية

قام عالم النفس الأمريكى إريك إريكسون بدور جوهرى فى استخدام مفهوم الهوية وانتشار استخدامها في العلوم الإنسانية، والطب النفسى، وعلم النفس. ففي عام 1933 غادر هذا العالم
-الذي نشأ في مدرسة التحليل النفسي- فيينا حيث تابع دروس أنا فرويد(
إلى الولايات المتحدة. وهناك ركز اهتمامه على الأعمال الأنثروبولوجية للمدرسة
الثقافية، وكان ذلك دافعاً له لتطوير أسس نظرية فرويد في مجال العلوم
الاجتماعية. وفي الواقع، كانت مدرسة "الثقافة والشخصية" -بعلمائها
الأنثربولوجيين كأبرام كاردينر و مارغريت ميد- تعكف على دراسة العلاقة
بين النماذج الثقافية لمجتمع معين وأنواع الشخصية السائدة بين الأفراد
الذين يشكلون هذا المجتمع. وفي الثلاثينيات من القرن الماضى عمل إريكسون في المحميات
الهندية لقبائل السيو بداكوتا الجنوبية، وفي قبيلة يوروك بكاليفورنيا
الشمالية، كما عكف على دراسة "الاجتثاث الثقافي" أو ما يعرف "بالأساس الثقافى للحضارات" لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة. ثم نشر في عام 1950 كتابه الشهير "طفولة ومجتمع"، حاول فيه تجاوز نظرية فرويد بالتأكيد أكثر على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية. فاعتبر أن الهوية الشخصية تتطور وجودها عبر ثمانية مراحل تقابلها ثمانية مراحل عمرية خلال دورة حياة الفرد الكلية. و "أزمة الهوية" (وهذا التعبير الذي نقرؤه اليوم في كل مجال...هو من صياغة إريكسون) تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية:
والأزمة الأبرز هي تلك التي تحدث في مرحلة المراهقة، لكن يمكن أيضاً أن تحدث في
مراحل لاحقة من عمر الفرد، خاصة حين يتعرض لصعوبات وضغوط متكررة شديدة الوطأة. لكن في البداية لم يطلع على عمل إريكسون إلا المختصون في علم النفس. وفي
نهاية الخمسينات اشتهر هذا العمل بين جمهور أوسع، خصوصاً مع إعادة طبع
كتاب "طفولة ومجتمع" سنة 1963، والذي يعد حدثاً حقيقياً.

ثانياً: استخدام علم الاجتماع لمفهوم الهوية

يكاد الجميع يتفق على أن إريكسون هو أب كلمة "الهوية" بالمعنى المعاصر. لكن يجب أيضاً -كما بينه المؤرخ فيليب كليزون في التأريخ الدلالي الذي يقترحه للهوية- رصد مصادر أخرى لتوسع استخدام المفهوم عن طريق استعارة مفهوم "المحاكاة والنمذجة"، خارج الإطار التحليلي النفسي والمحاكاة والنمذجة يعنيان لدى سيغموند فرويد الأسلوب الذي به يتمثل الطفل أشياء أو شخوصاً خارجية. وعلى هذا الأساس، قدم عالم النفس كوردن آلبور، واحداً من أشهر مؤلفاته المعروف باسم "في حقيقة الإذاية"، المنشور عام 1954، والذى حاول فيه الربط بين تحقيق الذاتية وبين العرقية. ومن جهة أخرى، ربط مفهوم المحاكاة والنمذجة بعلم الاجتماع عبر نظرية الأدوار، وكذلك عبر نظرية "جماعة المرجعية". هكذا فسر نيلسون فوت، في بداية الخمسينات، المحاكاة والنمذجة باستعارة الفرد الواحد لهوية واحدة أو لسلسلة من الهويات. ومن ثم فإن المحاكاة والنمذجة هما أبرز مصادر هوية الفرد التي تمكن من فهم لماذا نبحث عن القيام بدور ما. أما نظرية مجتمع المرجعية (والتي تعني الجماعة التي يحدد الفرد هويته عبرها وفي إطارها، فيستعير قيمها ومعاييرها بدون أن يكون بالضرورة عضواً فيها) فقد كسبت احتراماً بين المتخصصين فى علم الاجتماع، خصوصاً بتأثير روبر
ميرتون، كما ساهمت في شيوع مفهوم الهوية ومشتقاته.
لكن لم يحتل مفهوم الهوية أهمية حاسمة في معجم علم الاجتماع إلا بواسطة
التفاعلية الرمزية؛ حيث تبحث هذه المدرسة بالضبط في الطريقة التي تشكل
عبرها التفاعلات الاجتماعية -وبناء على أنساق رمزية مشتركة- وعي الفرد
بنفسه. وهذا بحث في صميم إشكالية الهوية.

وبالرغم من ذلك لم يستعمل التفاعليون في البداية هذا المفهوم. ذلك لأن المؤسسين الأوائل لمنهج المدرسة التفاعلية -شارل كولي وجورج ميد-
ركزا على "الذات soi"، وهو المصطلح الذي راج بين التفاعليين في الستينات.
ثم إن التفاعلية الرمزية انتقلت من استخدام اصطلاح الذات إلى استخدام
اصطلاح الهوية بدءاً من سنة 1963، وذلك حين نشر إيرفين جوفمان -أحد رؤوس
هذه المدرسة-أشهر مؤلفاته "آثار الجراح: ملاحظات على أسلوب التعاطي مع هوية
مدمرة" وفي السنة ذاتها استخدم بيتر برجر مفهوم الهوية وساهم في انتشاره
بكتابه: "دعوة إلى دراسة علم الاجتماع"، وذلك حين خصّص له
حيّزاً مهمً في تقديمه لنظريات الأدوار والجماعة المرجعية، وكذلك من خلال
المقاربة الظاهراتية التي طورها في كتابه هذا.

ثالثاً: دور الأقليات فى نشأة انقسامات الهوية

وعلى هذا الأساس، انتشار مفهوم الهوية وشاع استخدامه في علوم الاجتماع بالولايات المتحدة خاصة فى الستينات من القرن الماضى. ثم إن هذا الاستخدام كثر وتوسع وانتشر بسرعة كبيرة حتى صار من المستحيل -كما قال بيب كليزون- أن نحدد المعنى الدقيق لكل
استخدام خاص لمفهوم الهوية. ثم إن الوضع السياسي بأمريكا ساهم بدوره في
ترسيخ اصطلاح الهوية، وفرضه على لغة الإعلام كما فرضه على التحليل الاجتماعي
والسياسي. ذلك أنه في نهاية الستينات برزت الأقليات الأمريكية ذات الأصول
الأفريقية، خصوصاً بظهور منظمة "الفهود السود" سنة 1966. ثم حذت أقليات أخرى
حذو حركة السود مطالبة بالاعتراف بخصوصيتها. وهذه الأحداث أنتجت "صحوة
هوية حقيقية" في فترة السبعينات من القرن الماضى. وكما لاحظ ذلك عالم الاجتماع الأمريكي
روجر بروباكر، فإن "تجربة الأمريكيين من أصل إفريقي مع قضية "الإثنية"
باعتبارها تصنيفاً يفرض نفسه، وفي الوقت نفسه باعتبارها تحديداً ذاتياً
للهوية... هذه التجربة كانت حاسمة ليس فقط لنفسها وفي داخل حدودها الخاصة،
بل أيضاً في تقديمها لنموذج الاحتجاج على أساس من الهوية، وهو النموذج
الذي استفادت منه جميع أنواع الهويات، بدءاً من تلك التي تتعلق بالجنس أو
بالاختيار الجنسي، وانتهاء بتلك التي تتأسس على "الانتماء الإثني أو
العرق". وقد انعكس هذا في حقل العلوم الاجتماعية والنفسية بشكل أساسى، على مستوى تأسيس أقسام متنوعة بالجامعة الأمريكية مثل الدراسات الأفرو-أمريكية (ويسمى هذا القسم
بـ"الدراسات السوداء")، والدراسات النسوية، والدراسات الخاصة بطائفة
الشاذين جنسياً، والدراسات عن المكسيكيين المستقرين بالولايات
المتحدة، والدراسات اليهودية، وحتى الدراسات على الأقليات العربية الإسلامية المقيمة فى المجتمع الأوروبى عامة، والمجتمع الأمريكى خاصة. وتبدو هوية الأقلية بالنسبة لهذه الحقول
الدراسية معطى أوليًّا. كذلك قام مفكرو ما بعد الاستعمار من جانبهم،
كإدوارد بارو، وكاياتري سبيفاك، بدراسة مسئلة الهويات الهجينة والمختلطة التي
صنعها التاريخ الاستعماري.

رابعاً: دور الفردانية فى انقسامات الهوية والصراع النفسى

وعلى الرغم من كافة هذه المؤثرات التاريخية التى توضح لنا كيفية نشأة مفهوم الهوية، إلا أن التأثير الأكبر يتحدد فى التأكيد على اتخاذ مصطلح الهوية مضمون الفردانية- حيث يلاحظ عالم الاجتماع جون كلود كوفمان في كتابه "ابتكار الذات"
أن "الهوية نتيجة ذاتية للحداثة ومرتبطة تاريخياً بها. لم يكن الإنسان
المندمج في مجتمع تقليدي يطرح مشاكل الهوية كما نفعل نحن اليوم. رغم أنه
عملياً كان يعيش فردانيتة". إننا إذ نلج عصر الهويات، وانقساماتها، فبالضبط لأنها لم
تبقَ ثابتة ضمن اطار واضح، بل صارت أشكال متغيرة ويلزم بناؤها وتأسيسها.
لقد بدأت عاطفة الهوية الفردانية تنتشر بالتدريج في القرن التاسع عشر،
ولاشك أن الرومانسية هي إحدى أقوى تجليات هذا الشعور. لكن هذه "الحداثة
الأولى" لم تطرح بحدة قضية الهويات التي كانت لا تزال حاضرة واضحة تفرض
نفسها من أعلى. والأمر لا يختلف بالنسبة إلى النصف الأول من القرن
العشرين. بالمقابل شهدت الستينات انقلاباً حقيقياً، فأصبح على الشخص نفسه
أن يؤسس ذاتيته، وهذا يثير مشاكل حقيقية، كما يشير لذلك عالم الاجتماع
آلان إيرنبرغ. لقد بيَّن في كتابه "التعب من الذات" كم هي مضنية مسيرة
البحث عن الهوية: إن الاكتئاب هو بلا ريب العرض المرضي الأشد بروزاً لهذه
الصعوبة الجديدة في التحديد الشخصي للهوية، خاصة داخل مجتمعات تعانى ظروفاً اقتصادية، وسياسية، واجتماعية غير مستقرة، ولا تتصف سوى بالآمان النسبى، وشبة الانتماء غير المبرر. هكذا ظهر بسرعة الجانب السلبي لهذه الثورة: فللحرية ثمن غالٍ. وفي الواقع يتميز الدخول فيما يسميه أنطوني جيدن بـ"الحداثة المتقدمة" بدرجة متزايدة من التأمل:
فالأفراد يتساءلون عن كل شيء، مما يجعل سلوكهم متردداً باستمرار. وفي هذا
يوجد مفتاح الهوية بالنسبة لكوفمان الذي يقول: "يندرج الفكر السؤول ضمن
منطق الانفتاح، فهو يحطم اليقينيات، ويشكك فيما اعتبر مكسباً نهائياً.

خامساً: الاتجاة الفلسفى النفسى لسلبيات مفهوم الهوية

حاول الفيلسوف الكندي شارل تايلور في كتابه "أصول الأنا" أن
يتتبع نشأة الهوية الحديثة والفردانية عبر تاريخ الفلسفة وتاريخ العقليات
ووفقاً لوجهة نظره فإن الهوية الحديثة ترتكز على ثلاثة جوانب يؤدى كل منها الى الصراع النفسى، وهما:
1- اكتشاف السريرة الداخلية: حيث كان لكل من الفيلسوف اليونانى أغسطين، ومونتيني، وديكارت، ثم جون لوك، دوراً حاسماً، فى التركيز على أثر انقسام ذات الفرد فى تشكيل ونشأة الاضطرابات النفسية إذ بدأ الإنسان شيئاً فشيئاً يتعلم أن ينظر إلى نفسه باعتباره "أنا" لاوعياً.
2- ضرورة تثمين أو المغالاة فى تقييم الحياة المادية الواقعية (ودور البروتستانتية هام هنا، لأنها تثمن الحياة المادية عبر: العمل، وصناعة الأشياء المفيدة في الحياة، والأسرة، والزواج).
3- علمنة المجتمع، وجعله لا يعترف إلا بما هو مادى، وعيانى، وموجود، مما أدى إلى نشأة مجموعة من الاضطرابات النفسية والصراعات الداخلية لدى الفرد بين ضميره، ومعايير الصواب والخطأ التى يحتفظ بها من موروثاته الثقافية المجتمعية، وبين احتياجاته المادية، والجنسية، وهذه الصراعات عند تيلور هى الأساس وراء نشأة الاضطرابات النفسية، خاصة الاضطرابات المزاجية، وبالتحديد الاكتئاب، وتفاقم الاضطرابات الأسرية، والخلافات الزوجية، وصراعات الأجيال بين الآباء والآبناء، ومن ثم تنشأ الذاتية المطلقة، وتتفاقم مشاعر الأنانية، إنها العودة القوية للفرد، ويمكن أن يؤدى هذا إلى تفاقم اضطرابات القلق، بمختلف أشكالها، ودرجتها. وفى هذا الاتجاة يذكر كلود ليفي ستراوس -في الحلقة الدراسية
التي أدارها بمعهد فرنسا، سنة 1974/1975، حول موضوع الهوية- لم يستطع
إخفاء انزعاجه من هذه الميول النرجسية التي تمنّى لها نهاية قريبة، يقول:
إن إيماننا المستمر بـ(فكرة الهوية) ربما لم يكن إلا انعكاساً لحالة
حضارية من المفروض ألَّا تتجاوز بضعة قرون. لكن ها هي أزمة الهوية الشهيرة
-والتي كثر عنها الكلام- تكتسي معنى جديداً يؤدى إلى خلق عديد من الاضطرابات النفسية، والسلوكية، وأيضاً العقلية.." ويذكر فى هذا الصدد، عالم النفس الإنجليزى آرثر فريمان "إن الاضطرابات الانشقاقية والتحولية، والاضطرابات الذهانية وعلى رأسها الفصام، تنشأ نتيجة انقسام هوية الفرد داخل مجتمعات تتضارب فى معاييرها الدينية، والأخلاقية، والثقافية الموروثة"
وبناءاً على هذا، وعلى ضوء المستجدات وتصارع الإيديولوجيات، وقوة الإعلام، أصبح الإنسان مستلبا، فقد خصوصياته، وملامحه الحضارية، ومعتقداته الدينية، وتقاليده الموروثة، أصبح لا يعرف من هو؟ ضاعت هويته، وصبغته، وسيطر عليه الإستلاب العولمي في جميع مناحي الحياة. وفي أمتنا الإسلامية ابتعدنا عن منطق الهوية الذي يوجهه الوازع الديني، وأصبح الإنسان المسلم يرتبط بإنتماءات أخرجته عن هويته الحقيقية. قال الله تعالى:” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم“سورة الحجرات.

وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي و لا لأعجمي على عربي و لا لأحمر على أبيض و لا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى. والفلسفة الإسلامية عند نظرتها لهوية الإنسان، هل هو إنسان بالنفس أم بالجسد أم بالروح أم بالعقل، أم بالصفات؟! واستنتج الغزالي على أن هذه الأسماء تعني معنى واحد هو أن للإنسان طبيعة وجوهر، أي أنه كائنا ممجد. في الفلسفة الغربية وقع انحراف عن المسارالذي كان يأخذه الإنسان قديما، ففلسفة النهضة اعتبرته جوهر وطبيعة إلا أن المعاصرين الماديين ادخلوا مفهوم الإصطناع على هوية الإنسان. وقد انطلق هذا الإعتقاد مع داروين، وماركس، ونيتشه، وغيرهم، وقالوا أن الإنسان مصطنع ليس شيئا مثاليا وممجداً، كما كان يعتقد فهو في نظرهم مثل باقي الأحياء ليس سوى مرتبة من بين الموجودات و فرع من شجرة الحياة الكبرى، يسقط و يتحرك كجسم و ينمو و يتحلل كنبتة و يتناسل كحيوان . بهذا المفهوم ضربت هوية الإنسان في الصميم، و أصبحت قيمته الممجدة تتهاوى. وبسبب الاختلاف في مفهوم الإنسان برزت مذاهب كثيرة منها العقلانية، والروحانية، والمادية، والوجودية، والمثالية، والعبثية وغيرها من الإتجاهات الفكرية.

علاقة الهوية بالصراعات النفسية

وحديثاً بدأ مفهوم الهوية يأخذ ملمحاً علمياً، حيث أن الاضطراب فى هوية الفرد والتى تمثل معتقداته الدينية، والاجتماعية، وموروثاته الثقافية، يترتب عليه اضطراب المجتمع وتفاقم الاضطرابات النفسية، ولنأخذ أمثلة من السيكوباثولوجى أو ما يعرف بعلم النفس المرضى، والذى يبحث فى أساس نشأة الاضطرابات النفسية، وربطها بالموروث الثقافى، والمعتقدات الراسخة، والتنشئة الاجتماعية، من بين الأمثلة:

اضطرابات الفصام: فالأساس فى اضطراب الفصام هو عدم الاستبصار بالواقع، فتنقسم هوية الفرد وتنفصل ذاته عن واقعه، ويختل ادراكه وتبدأ الضلالات تجد طريقها فى السيطرة عليه بما يتفق وموروثه الدينى، والثقافى، والاجتماعى، فيحضرنى ذلك المريض الذى يرى نفسه المهدى المنتظر، الذى ينتظره العالم ليخلصه من الفساد، ويحضرنى أيضاً ذلك الذى كان يرى نفسه خاتم المرسلين، وأخر حاكمً للبلد التى نشأ فيها على الرغم من عدم معرفته للقرأة والكتابة، إذن يأخذ الصراع النفسى محتوى المجتمع وثقافة المجتمع الذى ينشأ فيه، وعلى هذا الجانب، نجد مريض الفصام فى المجتمع الغربى يعتقد أنه المسيح "عيسى بن مريم"، ويحضرنى ذلك الذى أخذ يتعامل مع المحيطين به على أنه رئيس للولايات المتحدة الأمريكية، حتى رفع أمره لمديره فى العمل وقرر فصله. لقد باتت الاضطرابات والصراعات النفسية جزء لا يتجزأ من الواقع الاجتماعى، والموروث الثقافى، والدينى حولها.
اضطرابات القلق: والتى تتضمن اضطراب الوسواس القهرى، حيث تؤكد نتائج الدراسات النفسية زيادة نسب انتشار الوسواس القهرى خاصة فيما يتعلق بالوساوس الدينية، والنظافة الذاتية، ومتطلبات الصلاة، من وضوء، ونية مبيتة، أكثر انتشاراً فى المجتمعات العربية، مقارنة بالمجتمعات الغربية، وفى المجتمعات العربية ذات النزعة الاسلامية مقارنة بالمجتمعات العربية ذات النزعة غير الاسلامية، وقد يعزو الأساس النفسى فى ذلك لاضطراب هوية الفرد الدينية، وتشتت تفكيره، بين عدة مذاهب، لا يجد الثابت فيها بل يجد المتغير، والاختلاف ـ وإذا كان الاختلاف رحمة كما ذكر قديماً ـ فترى بعض النظريات فى الفكر الاسلامى المعاصر أن الاختلاف سلاح ذو حدين، قد يجعل الفرد رؤفاً بذاته وبمن حوله، أو قد يجعله مشتتاً غير قادر على التمييز، واتخاذ القرار، ومن ثم تبدأ هوية الفرد فى الترنح، والتخبط بين كثرة، وتعددية المذاهب حتى ينشأ لديه التردد، فلا يقوى على تحديد سلوكه، عند الوضوء، والصلاة، ومع وجود بعض النماذج المحيطة ذات السلوكيات الوسواسية تكرارية النمط، تتفاقم أعراض اضطراب الوسواس القهرى. ولا تعد المجتمعات الغربية أفضل حالاً من غيرها، حيث نتيجة اضطراب الهوية المجتمعية، واتخاذ المجتمع الأوروبى، والأمريكى الاتجاة العلمانى المادى، والذى فيه تحول الإنسان إلى ألة إنتاج، انتشر اضطراب الوسواس القهرى الخاص بالعد، والتنظيم، والترتيب، والاحتفاظ، بنسب وصلت فى بعض الدراسات إلى أكثر من 43% بين أفراد المرحلة العمرية الواحدة.

الانحرافات السلوكية: والتى من اشهرها، وأكثرها انتشاراً بنسب متقاربة فى المجتمعين العربى والغربى، الإدمان على الكحوليات، والمواد المخدرة، حيث يرجع ذلك الى خلل الهوية الذاتية للفرد داخل منظومة الجماعة، خاصة داخل منظومة الأسرة، حيث القمع أو التدليل الزائد مما لا يعطى الفرصة الى بناء هوية نفسية مستقرة فى المراهقة، والرشد، ومن ثم يتجه الفرد نحو جماعات الأقران والتى من خلالها يعبر بوابة الادمان، حتى يحقق فى خياله، ما لم تتنسى له الفرصة تحقيقه فى الواقع، وقد أصبح الادمان الظاهرة الاجتماعية الأكثر خطورة.
اضطراب الهوية الجنسية: وهو من الاضطرابات التى نتجت عن انقسام هوية الفرد بين شقى النوع أو الجنس، وقبول الدور الملائم لهذا النوع، خاصة داخل مجتمع الأسرة، فيفقد الابن نموذج الأب القدوة، فتختل هويته مع جنسه العضوى أو البيولوجى، فيتخذ سلوكاً لا يتفق ونوعه، وبالمثل الإبنة حين يتساوى فى نظرها دور نموذج الأب مع دور نموذج الأم، بل وفى بعض الأحيان سيطرة نموذج الأم، فتختل هويتها، وينشأ الصراع النفسى بين ما هو مفروض عليها أن تسلكه بما يتفق ودورها المستقبلى كمرأة، وزوجة، وأم، وبين هويتها الداخلية التى تتصارع داخلها لتأخذ دوراً ذكورياً، خاصة خلال مراحل الطفولة، ومن هنا تتفاقم أعراض اضطراب الهوية الجنسية، والتحول الجنسي، وحتى اضطراب الوظائف الجنسية.

هذا إلى جانب عديد من الاضطرابات والصراعات النفسية الأخرى التى نتجت عن تشتت وانقسامات هوية الفرد، داخل مجتمعات مبهمة المعالم. وضمن هذا الاطار يأتى دور علم النفس العلاجى، والطب النفسى، للتصدى إلى هذه الاضطرابات، وتوعية المجتمع بكافة طبقاته، خطورة تشتت وانقسام هوية الفرد، والمجتمع.


أ.ضياء الدين عادل





التوقيع

لا إلـه إلا الله

بها نحيــــا وبها نمـــوت وبها نلقــى الله
    رد مع اقتباس