الموضوع: القصبة العائمة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-02-16, 14:00 رقم المشاركة : 2
rougegorge
أستـــــاذ(ة) متميز
 
الصورة الرمزية rougegorge

 

إحصائية العضو







rougegorge غير متواجد حالياً


افتراضي رد: القصبة العائمة


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة tagnaouite مشاهدة المشاركة

طال ذهوله وهويجد نفسه داخل القصبة تعوم فوق موج أزرق هادئ..
امتد بصره عبر أبراجها إلى ما تكنزه آفاق البحر الممتدة ..
بعد لحيظات ،اختفى قرص الشمس بعدما رسم في صفحات تلك الآفاق قطعا تحاكي تناثر ذهب خالص .
أعتمت بسرعة الآفاق ، ودخلت هذه القصبة في ظلمات بعضها فوق بعض .. أشعلت الشموع بالقصبة ، فصارما يخرج منها من ضوء الشموع ذرات ضوئية لا قيمة لها وسط امتداد أسود ، فقد أفلت زرقة الماء وتحولت إلى سواد داكن .
لم يدر كيف ومتى دخل القصبة .. صار الليل يسود جلبابه ، وفي سعة من هدوء الموج وسكون الليل ، شرع أحد الكناويين ينشد بصوت خافت وحزين: " بابا موسى .. بابا البحراوي .. بابا موسى ، يابواب المرسى..".. يتحسس بياض جدران سيدي موسى الدكالي المشرف مرقده على صخورالبحر . عزف المنشد على آلة الهجهوج بقوة انفغاله وبقوة حجب الظلام بينه وبين الضريح .. انقلب الموج من هدوء إلى اضطراب خفيف كأنه يداعب درجة انفعال العازف .. سمع خلالها أصوات شبحية تنفلت من أرحام أمواج متصارعة .. أصوات مسموعة مبهمة ، وأخرى تكاد لا تسمع .. تغيرت وتيرة أوتارالهجهوج متآلفة مع لحن تلك الأصوات ،الشبحية ، فتسرب إلى آذانهم أنين حاد بلحن كئيب ، ثم أنشدوا جميعهم :
" سكنات عيشة البحور ..للا عيشة الكناوية.." . اختفى الأنين العذب الرخيم ،فشعروا بوحدة رهيبة .. سبحت بهم القصبة في موج كسلسلة جبيلات ، ثم انخفضت تود الرجوع إلى مستقرها لمئات السنين بإشرافها على البحر ، ومجاورتها لضريح سيدي موسى الدكالي .
عانقت هذه القصبة رذاذ البحر أمدا من الزمن دون أن تقتلع من فوق اليابسة .. لا يصدق العقل كيف لقصبة بنيت بحجر الكلس وبالتراب الأحمرأن تقتلع من اليابسة لتطفو عائمة فوق الماء! .. ثم إلى أين يجري بها الماء؟!.. وإلى أين المصير؟!.
هدأت الأمواج بغثة فأتيح لهم أن يطمئنوا ،فأنشد بعضهم : " يارب السلامة ، يارب يداوينا ، صلوا على نبينا " .
انبرى عازف آخر ، فعزف على آلته الوترية المختلف شكلها عن شكل أصحابه .. تفنن في تزيينها بأشكال من الأصداف البحرية ، وكسا جوانبها بخيوط جلدية متنوعة الألوان .. مزج عزفه على آلته بكلمات لا تفصح عن نفسها بالقدر المطلوب .. تساقط الكثير من أسنانه بتقدم عمره المجاوز للسبعين .. ألحق رغم ذلك في دواخلهم حزنا مستعذبا ينسجم مع تلاعب أمواج القصبة .. تتالت الكلمات ونغمات العزف ، فأتيح لحاملي" القراقب" أن يوقعوا بضرباتهم المتتالية اصطكاكات لذيذة أذهبت الحزن وأشاعت اطمئنانا لروح اكناوية جماعية عالية في السراء والضراء ، واثناء رقصهم كانت ضربات أرجلهم على الأرض تصدر وقعا كوقع على أرض خشبية..
تواصل العزف والرقص دون انشاد إلى اقتراب السحر ، فأدركوا أن القصبة تزحف بهم إلى آفاق مجهولة . لو كان الأمر يخص أجسادهم بشحمها ولحمها لسهل عليهم أن يرتموا من القصبة الى الماء ،فهم بحراويون يتقنون السباحة ، ولهان عليهم أن يتركوا القصبة وشأنها تعوم كيفما تقلبها الأمواج ، لكنها محراب أرواحهم المجبولة على الموسيقى الكناوية ، فهم نفخوا فيها من أرواح عزفهم ، وايقاعات " قراقبهم" وضربات طبولهم ، فخلدوا في القصبة إبداعهم وميراث آبائهم ، فكيف إذا يكون يسيرا عليهم تركها تعوم في خضم أمواج لا يدرون ماهي فاعلة بها.
ظل كل واحد منهم يستذكر ما أحياه من ليال غاية في الروحانية ، فتزايد أسفهم ، وعلى مرارة الأسف تعالت أصواتهم متوحدة على صعيد حرقة واحدة ولحن واحد ، وإنشاد متكرر.
أذعنوا لما تفعله الأمواج ، فتركوا كبيرهم يعزف عزفا خاصا وخالصا بطريقته التي يبرع بها حتى انجلى السحر .. أحسوا وهم على ذهاب السحر
بأن القصبة ترجع بهم الى مستقرها .. انطفأت الشموع داخلها ، فبرز للحظة قصيرة خيط الفجر الأبيض من خيط السحر الأسود ، فهللوا ، وكبروا ، وحدثوا بنعمة نجاة القصبة ونجاتهم .
خرجوا من القصبة التي توقفت محاذية لضريح لضريح سيدي موسى الدكالي ، ثم تلاشت بالقرب من الضريح في شكل بخور زكي الرائحة
نفذ عبر جدرانه .
هدر البحر مليا .. سكن هديره ، فسمعوا صوت المؤذن للفجر ينادي للفريضة من مأذنة غير بعيدة عنهم . أنهى المؤذن الأذان بغنة صوته المؤثرة ، فاطمأنت القلوب .. تلاها صمت كان يسبق صخب الأمواج..تتلاطم متكسرة على الصخور.
كان رذاذها يصل كالبلسم إلى الضريح فيندي جدرانه المصبوغة بالجيرالأبيض .
ظلت الأمواج على حالة واحدة ، فاندفعت أمواج أشد صخبا ، كادت تسقطهم من على الصخرة التي اعتصموا بها وقت نجاتهم وحين دهشتهم بنفاذها عبر جدران مرقد الولي الصالح .
كان مشهد إشرافه على السقوط معهم من فوق الصخرة هو آخر عهد له بهذه المشاهد ، فقد استيقظ من نومه ليدرك بأن كل هذه المشاهد المدهشة تتعلق بحلم اختلطت فيه الحقيقة بالخيال والرمز بالوضوح..قصد القصبة في حالة قلق دون أن يهتم بوجبة فطوره المعروضة عليه .. خرج مسرعا نحو البحر ، ولما اقترب إليه برزت له الأمواج في أبهى زرقتها وزينة الهدوء الذي طالعته به .. لمح القصبة في مكانها .. اقترب اليها بأسرع ما يمكن ، فوجد بجانبها معدات بناء ، فسأل سائق شاحنة مواد البناء:
- من فضلك سيدي .. ما الذي يجري هنا ؟!
نزل السائق من مقصورة الشاحنة قائلا:
- سترمم القصبة بعض الشيئ ، ثم تنقلب مأوى خيريا للأطفال المشردين يتعلمون فيه فن السرك.
فرح لهذا المشروع الخيري ، لكنه مالبث أن اعتوره خوف من أن تشوه أو تغير معالم القصبة . مر أحد المشتغلين في ورش البناء بجانبه ، فسأله:
- هل سيبقي الترميم شكلها الأصلي؟
نظر اليه ثم أشار الى سورها المهترئ وأبراجها الصغيرة المتهاوية جنباتها
وقال :
- ترميم شكلها الخارجي يتطلب الجهد والوقت ، وهو أمر مستبعد.
انصرف عن ورش البناء ، وقد فك بعض رموز حلمه ، وعلى طول الشاطئ مد بصره تارة الى الآفاق البعيدة ، وتارة إلى مرقد سيدي موسى
الدكالي .. بدأ يأم الضريح بعض زواره على عزف وايقاع بعض الفرق الكناوية بإيقاعات وشطحات عذبة .. مشى على طول الشاطئ منتشيا بكلامهم وإيقاعات موسيقاهم : " بابا موسى ..بواب المرسى.."
ضعفت الأصوات والإيقاعات وهو يودع الضريح والقصبة .. التفت وراءه ليجد القصبة من بعيد ما فتئت شامخة تقوم بكل كبريائها وتاريخها،
رغم تآكل سورها وتهاوي جنبات أبراجها.

إبداع : محمد الزاكي
هوامش :
* القصبة : إشارة إلى معلمة أثرية تطل على بحرمدينة سلا بالمغرب .
* موسيقى اكناوة : هي موسيقى روحية ذات جذور إفريقية زنجية .
* الهجهوج : آلة وترية .
* القراقب : مصطكات حديدية تتناغم مع
الهجهوج .

تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار

سلمت يداك أخي الكريم





    رد مع اقتباس