عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-03-15, 20:53 رقم المشاركة : 1
تربية مغرب
أستـــــاذ(ة) جديد
إحصائية العضو







تربية مغرب غير متواجد حالياً


افتراضي مقال د. مصعب عزاوي: مفهوم الوحدة العربية بين الطوبى و الواقع


1- مقدمة :
في عصر الاختراق والتفتت والتبعية ، عصر العولمة والاستلاب المعرفي وتغييب الثقافات الوطنية في إطار سيادة النمط الاستبدادي للقطب الواحد ، وفي ظل انحسار المنظومات الفكرية الكبرى لصالح قوانين السوق وشروط صندوق النقد الدولي ضمن سيرورة إضعاف دور الدولة الوطنية وإقصاء مفهوم الدولة – الأمة كحاوٍ موضوعي للنشاط الاقتصادي الاجتماعي لمنظومة من التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية تشكل ذاتاً كلية تمارس فعلها في موضوع كلي واحد .
في ظل ذلك وغيره من ضباب فوضى النظام العالمي الجديد ، يعاد طرح المسائل الأساسية في الحياة الفكرية على بساط البحث لتخضع لقانونية إعادة التصنيف في سلم الأهمية الاجتماعية وفقاً للقوة التي تملكها بالفعل بحيث تقصى أو أنها تستطيع البقاء صامدة في ذلك الخضم العجيب من الفوضى ؛ ومن ضمن تلك المفاهيم ، وقد يكون على رأسها ، مفهوم الوحدة العربية ، وفيما يلي سنحاول مقاربة مفهوم الوحدة العربية مع الإشارة بأن هدفنا من تلك المقاربة لا يقع في إطار تحليل الوحدة العربية مع الإشارة بأن هدفنا من تلك المقاربة لا يقع في إطار تحليل الوحدة العربية كمشروع نهضوي كلياني من ناحية التأسيس النظري له أو من ناحية رسم الحدود بين الايدلوجيا والتطبيق أو حتى مناقشة شمولية لمشروعية المفهوم إيدلوجياً وفلسفياً إذ أن ذلك يحتاج إلى دراسة مطولة لا تتسع لها مقالتنا هذه ؛ وهذا ما يجعلنا نبتعد قليلاً عن المقاربة الشمولية النقدية التنظيرية لدوافع المفهوم – المشروع الأساسية كالديمقراطية ، والعلمانية ، وحق تقرير المصير ووضع الأقليات ، والعدالة الاجتماعية ، والاشتراكية ، وعلاقة الدولة بالسلطة وغيرها ؛ وعلى الرغم من أهميتها الكبرى ؛ محاولين تركيز البحث حول رصد تحليلي لمفهوم الوحدة العربية انطلاقاً من علاقته الجدلية بالتشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية الأكثر اتساعاً في الوطن العربي ، وما ينجم عن ذلك من علاقة بين المفهوم والشعور الجمعي المرتبط بتلك التشكيلة .
ويجدر الإشارة هنا إلى أن مقاربتنا تستهدف تجاوز أسلوب الدعاية الغوغائية التطبيلية لبعض النظم العربية ، وذلك النمط الإرادوي الأعمى القافز فوق التاريخ وقانونيته ، وذلك الخطاب الموجه إلى السلطة والذي لا يبصر التغيير سوى من قمة الهرم ، بالإضافة إلى ذلك المنهج المستند إلى شكل من المازوخية الفكرية والتي تستمتع بعبثيتها وعدميتها بحيث تسحب عقمها الفكري وعجزها على مجتمعها متلذذة بإحساسها الفنائي ،أو تلك المدرسة السكونية التي تتناسى جدلية الداخل والخارج ولا تستطيع إلا تعليق العطب والقصور الذاتي على شماعة الخارج والأطروحات المؤمراتية لتخفي بذلك قصور رؤيتها النظرية وبؤسها الإبداعي .
2- نحو وضوح النهج ووحدة المصطلح :
قبل البدء بتوصيف ظاهرة ما ، ثم إخضاعها للتحليل ، لابدَّ من شحذ الأدوات المعرفية عبر تدقيق المصطلح ورسم الحدود المنهجية الواضحة للمقاربة المعرفية وفق تسلسلية منطقية متصاعدة – كما يسميها المعلم هيغل -، ولذلك سنناقش أولاً دلالة ومحتوى المفهوم كمنتوج اجتماعي ، عابرين من المفهوم دلالياً تجاه مفهوم الوحدة العربية : إن المفاهيم تختلف عن الموجودات الطبيعية ، وإن كانت مشتقة من تفاعلها ؛ فهي تعتبر الوحدات الأولية في تشكيل البنية الفوقية المتكونة ضمن الوعي الفاعل للفرد الاجتماعي بحيث تمثل رؤية متسقة بأجزائها الداخلية تعيد تصنيف وصياغة أوليات الوجود الاجتماعي بحسب دورها في الحفاظ على الفرد الاجتماعي ضمن بنيته الاجتماعية بحيث تضمن السبيل الأمثل لإعادة إنتاج حياة المجتمع (1) ؛ وهذا يقودنا بالتالي إلى ضرورة رسم ملامح أولية للبنية الاجتماعية العربية التي تفرز في إطارها بعدها الإنتاجي – الاجتماعي منظومة من المفاهيم ، ومن ضمنها مفهوم الوحدة العربية ، ويمكن الإشارة أولاً إلى أن السمة المميزة الأساسية للبنية الاجتماعية العربية هي أنها بنية غير ناضجة أو هي في طور النضوج ، ويمكن مقاربة ذلك الأخير من زاويتين اثنتين :
الأولى : ضآلة وهشاشة الإنتاج الاجتماعي العربي ، وسيادة التهميش الاقتصادي والاجتماعي في ظل دولة اللاقانون والاستبداد السلطوي المطلق (2).
والثانية : وتعتبر نتيجة للأولى ومكملاً لها وهي :
غياب التبنين الطبقي في المجتمعات العربية المنزوعة السياسة والسلاح لصالح نمو التشكيلات ما قبل القومية.
وللمقاربة المزدوجة السابقة ثلاثة مفاعيل أساسية تميز الحياة الاجتماعية – الاقتصادية في الوطن العربي :
1- غياب التقييم الاجتماعي على أساس التفادة لصالح الانتماءات الطفيلية والانتهازية الطابع والمندمجة ضمن هيكل السلطة البيروقراطية – القمعية .
2-ضعف أو ضآلة البرجوازية الوطنية لصالح نمو أشكال من البرجوازية الكمبراددورية أو السلطوية البيروقراطية .
3- تآكل الطبقات الوسطى (3) والتي تمثل الحامل الموضوعي لعملية التمييز الاجتماعي لصالح الزيادة الكمية للطبقات المسحوقةوالتي تقع خارج عملية الإنتاج وبالتالي خارج عملية تشكيل أي إيدلوجيا ،منضوية تحت نموذج من الايدلوجيا أحادية البند ألا وهو : تحصيل لقمة العيش .
والآن يتبادر إلى الذهن في ضوء التحليل السابق سؤال على درجة كبيرة من الرهافة والدقة :
أين يقع مفهوم الوحدة العربية ضمن ذلك المعممات الضبابي في البنية الاقتصادية – الاجتماعية العربية ، هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الحال .
4- مفهوم الوحدة العربية كمنتوج اجتماعي – تاريخي :
إن مفهوم الوحدة العربية صعد تاريخياً إلى الواجهة الفكرية العربية بمراحل أربعة ، يمكن الإشارة إليها باختصار كما يلي :
أ – مرحلة تأسيس المشروع النهضوي العربي :
وهي المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى ، وتمركزت حول مشروع قومي صيغته الأساسية التناقض مع السلطة العثمانية وسياستها التتريكية ؛ وكان في العموم مشروعاً يحاول جهده في تطبيق الفكرة القومية ذات المنشأ البرجوازي الأوربي على الواقع العربي دون التجذر الفعلي في شروط وقانونيات الواقع الاقتصادي –
الاجتماعي العربي ، وتجلى ذلك في الأعمال الفكرية للبستاني والشميل وعازوري والطهطاوي وغيرهم من المنورين العرب الأوائل (1) .
ب- مرحلة النضال من أجل الاستقلال في مرحلة ما بين الحربين :
وتحول المشروع القومي في هذه المرحلة إلى مشروع ذي بند واحد ألا وهو الاستقلال الوطن ،وعموماً يمكن القول بأن حدثية الصراع مع الآلة الاستعمارية لم تفسح المجال لتبلور أي مشروع متكامل خارج البند الوحيد المشار إليه آنفاً (2) .
جـ – مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني :
وهنا تمثل واقع التجزئة فعلياً ، متسايراً مع تشكل الدولة الوطنية ، التي صار لها سمة مميزة ابتداءً من ثورة يوليو في مصر والمستنسخات الأخرى عنها ؛ وهي صعود العسكر إلى قمة هرم السلطة التي تدعمها آلة قمع رهيبة في احتكارها الحقيقة والوطن وصواب الرؤيا(3) .
وفي هذه المرحلة أعيد تشكيل مفهوم الوحدة العربية ليأخذ شكله الأكثر شيوعاً بين الجماهير وذلك من خلال إدخاله ضمن المنظومة الإيدلوجية الإرادوية للدولة العسكرية (4) ، أي أنه رفع إلى الواجهة الإيدلوجية بغض النظر عن نضوج المقدمات الموضوعية له أم عدمـه ، وبحيث أصبح شعار الوحدة العربية بارتباط عضوي بالمنطق الإرادوي الذي يقدم الوصفات الناجزة لحل كل المشكلات وحتى لو قفز فوق قوانين التاريخ ، وترسخ ذلك النمط من الطرح مستنداً إلى ظاهرة الاندفاع عبر الزخم في الشارع العربي بحيث كانت الجماهير تندفع ليس وفقاً لمنطق الوعي وإنما وفقاً لاندفاع عاطفي يهيجه النموذج الكاريزمي للسلطة ويسيره الزخم العاطفي الجمعي ؛ ولكن ذلك النموذج من الطرح ابتدأ بالانهيار مع سقوط التجربة الناصرية بنكسة حزيران وما تلاها من اتفاقات الاستسلام وما أعقب ذلك من نتائج خروج مصر من الصف العربي ، وخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن ، وخفوت صوت الكفاح المسلح ، وكان ذلك إيذاناً بمرحلة أخرى .
د_ مرحلةالركود السياسي :
كان شكلاً من الاتفاق الضمني بين الأنظمة العربية أعقب الانهيار المشار إليه آنفاً ،سعت الأنظمة العربية مجتمعة إلى ترسيخه عقب حرب تشرين 73 هادفة إلى ترسيخ سلطتها القطرية في إطار من المزاودة الإعلامية بشعارات رنانة من مخلفات المنظومة الإرادوية السابقة مع اختلاف التطبيق لاختلاف الزمن .
واستمرت مرحلة الركود هذه إلى أن أتت حرب الخليج الثانية لتكون الشعرة التي قصمت ظهر الشعار ، وابتدأت الأنظمة العربية تخرج من وراء قناع الركود السابق لتطرح دعاية ايدلوجية جديدة تتناسب مع ميلها للتمسك بالسلطة ، وتبرز ذلك بمختلف الوسائل التلفيقية والتوفيقية .
ونستطيع من التوصيف السابق أن نندرج الأطروحة التالية :
إن المفهوم الذي سقط هو الطرح الإرادوي المستند إلى أن الوحدة العربية هي الحل السحري لكل مشكلات الأمة ، وهذه الأطروحة تقود كحد أدنى إلى الاستنتاج بأن مفهوم الوحدة العربية لم يتبين في وعي الجماهير كحاجة موضوعية واضحة المعالم ، تعبر عن حصيلة التفاعل الاقتصادي – الاجتماعي الذي تخوضه الجماهير ، أي بمعنى آخر : لقد سقط المفهوم الذي قدم على أساس محض إيدلوجي إرادوي أُحِلَّ قسراً في منظومة البنية الفوقية ، وابتدأ بالسقوط مع تداعي المنظومة – السلطة التي أحلته .
وإن هذه الأطروحة الأخيرة تفسح المجال أمام سؤال ذي رهافة مطلقة وعلى درجة عالية من الأهمية :
إذا كان مفهوم الوحدة العربية سقط كطرح إرادوي ، فهل سقط أيضاً كمفهوم يعبر عن حاجة موضوعية تمثل حصيلة التفاعل والتجربة الاقتصادية الاجتماعية العربية ، ونتيجة للتفاعل الجدلي المتصاعد للمتناقضات في المجتمع العربي ؟
ولكي لا نقع في الإطلاق ومصادرة الحقيقة سنعمد إلى الإجابة عن هذا السؤال بالإجابة عن ثلاثة من الأسئلة تمثل البنية الجذرية لسؤال الكبير أعلاه ، ونطرحها وفق ترتيب يضمن الاتساق المعرفي للإجابة ، وبحيث تترك المجال مفتوحاً أمام الإجابات الأخرى :
أولاً : إذا كان المفهوم هو بنية معرفية فوقية تنتجها التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية في عملية إعادة إنتاجها لحياة المجتمع ، فهل تقع هذه التشكيلات العربية في دائرة من التجانس بحيث يمكن لها أن تنتج مفهوماً متسقاً للوحدة العربية يتناسب مع الآليات الداخلية لتلك التشكيلات الممتدة من المحيط إلى الخليج ؟
وللإجابة نستعير أولاً مصطلح الباحث مسعود ضاهر (1) في توصيف عوامل عدم التجانس بعوامل الانشطار وعوامل التجانس بعوامل التوحيد ، ويمكن بعدها أن نشير إلى عوامل الانشطار المتمظهرة أساساً في اثنين من المفاعيل .
1- الإقصاء السلطوي القمعي للجماهير عن ساحة الفعل الاجتماعي الحقيقية ، وترسيخها منظومة القطرية عبر تقوية آلتها البيروقراطية وهياكلها الحديدية للحفاظ على مكتسباتها .
2- ظاهرة الأصفر والأخضر ، أي الحالة التي مثلها التفاوت ما بين دول الربع النفطي وباقي الدول العربية الفقيرة وما ترتب على ذلك التفاوت من تشكيل ذهنية عربية ترسخ ذلك التناقض من الشعور اليومي المعاش وحتى أرفع عمليات التحليل النظري والإيدلوجي لدى المثقفين العرب .
ولكن في المقابل من عوامل الانشطار تلك توجد منظومة من عوامل التوحيد ترتكز أساساً على تماثل قوى الإنتاج وشروط الإنتاج في البنى التحتية العربية وما يقابلها في البنى الفوقية وفي محاولة لتكثيف عوامل التوحيد أنقل بِتَصرُّف طرحاً للمفكر سمير أمين (2):
(( يمثل الوطن العربي وحدة فريدة من نوعها تكاد تتميز عن أي بقعة جغرافية أخرى من العالم ؛ وذلك بتجاوز ظاهرة الطفرة النفطية المؤقتة ؛ فمن ناحية قوى الإنتاج فهي تتميز ببنية فلاحية رعوية تتسم بضعف الإنتاج ، ومستوى دخل منخفض ، ونسبة من الأمية تتجاوز 40 % باستثناء لبنان ، وسيادة حالة التهميش حيث أن 60 % من القوى القادرة على الإنتاج في الوطن العربي هي بروليتاريا هامشية .
ومن ناحية شروط الإنتاج فهي تتسم كذلك بمميزات تكاد تكون واحدة في الوطن العربي وهي أساساً : غياب الممارسة الديمقراطية والتمثيل الديمقراطي مقابل استفحال القمع السلطوي وسيادة نمط الاستلاب المعرفي تجاه الآخر في الغرب وغياب دور المرأة ، والارتكاز على منظومات ارتباط اجتماعي من نموذج التشكيلات ما قبل القومية ، وحتى ظاهرة التطرف بمختلف أشكاله والتي تمثل النتيجة الطبيعية لظاهرة التهميش وهبوط شريحة كبيرة من الكتلة الاجتماعية إلى أسفل القاع الاقتصادي وأقصى حالات التغييب الاجتماعي )) .
وكمتابعة للإجابة تشير إلى البعد العاطفي لمفهوم الوحدة العربية ، اقتبس فيما يلي فقرة من تقرير اللجنة الثقافية الصادر عن ملتقى الشباب العربي في دورته التاسعة (1) تعقد مقارنة طريفة بين مدينتين عربيتين يفصلهما أكثر من أربعة آلاف كيلو متر :
(( وحقيقة إنه من المذهل جداً أن تنظر إلى مدينتي دير الزور عروس الفرات ، والخرطوم عروس النيل ، فترى أولاهما في الثانية وثانيهما في الأولى ، إلى درجة تكاد فيها المدينتان أن تمثلا توأماً حقيقياً ، فالمدينتان تتقارب إلى حد بعيد من ناحية التكوين المكاني ،فكلتاهما تستمدان أسباب حياتهما من نهر عظيم ، إذ يخترق النيل بفرعيه الأبيض والأزرق مدينة الخرطوم ، بحيث يطوق الخرطوم بحري ثم ليلتقي الفرعان بعد ذلك في النيلين المهيب ، وكذلك يفعل الفرات على أعتاب مدينة دير الزور فتكاد الحويقة أن تكون تقمصاً فراتياً للخرطوم بحري .
ولا يقف الأمر عند الوحدة في عبقرية المكان فقط ، ولكن الأعمق من ذلك هو الوحدة الإنسانية من الناحية الديموغرافية والسلوكية والوجدانية ، حتى تكاد ترى ، الكرم ، والألم والأحلام ، وعوامل القهر ، والشفافيـسة ، والطيبة الخالصة عند أهل الخرطوم تجلياً لنفس الجوهر الراسخ على شاطئ الفرات في أعماق مدينة دير الزور )) .
والآن إذا كانت الإجابة عن السؤال الأول حاولت وضع اليد على العلاقة الجدلية بين مفهوم الوحدة العربية وتركيبة البنية التحتية في المجتمع العربي ، فإن هذه الإجابة تفتح الباب أمام السؤال الثاني التالي .
ثانياً : أين يقع مفهوم الوحدة العربية ضمن نسق الوعي الجمعي العربي ؟
وللإجابة هنا نستحضر التقسيم الغرامشي(2) للحدود الوظيفية للوعي إلى وعيٍ موجود بالفعل ،ووعي كامن ، لتوافق ذلك التقسيم مع الوضع الواقعي الذي نحن بصدد تحليله .
1- الوعي الموجود بالفعل ومفهوم الوحدة العربية :
يشير الوعي الموجود بالفعل إلى نسق معرفي يمثل حصيلة التجربة التاريخية بشقيها المعاش والتراكمي ، وهو أي ذاك الوعي يشكل جزءاً من تركيبة البنية الفوقية العربية ، وهو بعلاقته مع مفهوم الوحدة العربية يرتبط بشكل وثيق بتاريخية المفهوم المتكونة فعلياً في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني ، والتي فصلنا في بنيتها الداخلية ومفاعيلها آنفاً .
ومن السابق يمكننا أن نقول إن تلك العلاقة الأخيرة تنطوي ضمنياً على حصيلة التجربة الجمعية من الإخفاقات والانتكاسات ماضياً وحاضراً وذلك على صعيدي الواقع والوعي .
2- الوعي الكامن ومفهوم الوحدة العربية :
يعبر الوعي الكامن عن المنظومة المعرفية التي تنتجها الكتلة التاريخية في إطار تجربتها التاريخية وفي إطار صراعها مع التناقضات التي تفرزها هذه التجربة ، وهي تمثل بنية قابلة للتطور تتساير في نضجها مع عملية تصاعد التناقضات التي كانت المنبع الأول لتشكلها كمنظومة ؛ ومتى وصلت تلك التناقضات إلى مرحلة تقتضي قفزة نوعية لتجاوز الآفاق المسدودة أمام التناقضات ؛ تفصح تلك المنظومة عن نفسها بكونها الزناد القادم لتوجيه روافع القفزة النوعية تلك ، أي بمقولة أخرى : إن الوعي الكامن يمثل الوعي الصاعد كانعكاس موضوعي لحركة المادة تاريخياً نحو الأمام ، وهو الكفيل في حالة إنضاجه بتحقيق القفزة النوعية التي تستطيع تجاوز واقع التناقض والتشرذم في المجتمع والاقتصاد العربيين وذلك منوط بتمكن الكتلة التاريخية العربية من أخذ زمام المبادرة من أجل تصعيد التناقضات التي تعيشها بحيث تقوي الوحدة ما بين فئاتها وشرائحها ككتلة أولاً ، وثانياً : إفساح المجال لإنضاج وعيها الكامن باتساق مع تصعيد التناقضات بحيث تصل إلى مرحلة يكف فيها الوعي الكامن عن كونه كامناً ويفصح عن نفسه حينئذٍ بكونه وعياً موجوداً بالفعل .
ثالثاً : إن إجابتنا عن السؤال السابق تضعنا مباشرة أمام سؤال ثالث نصوغه بشقين اثنين كما يلي :
أ – ما هي الكتلة التاريخية المقترحة لتقوم بدور الرافع الاجتماعي والحامل للتغيير في ضوء ما طرحناه سابقاً من طبيعة التركيب الاقتصادي – الاجتماعي المهشم في الوطن العربي ؟
ب _ وكيف تستطيع هذه الكتلة التاريخية أن تفعل في المجتمع في ضوء ما قدمناه عن الآليات الداخلية للنظم العربية ؟
وكإجابة على الشق الأول من السؤال نقول :
في ضوء ما ذكرناه من عدم نضج البنى الإنتاجية في الوطن العربي إضافة إلى سيادة نموذج الدولة البيروقراطية وما استتبع ذلك من غياب برجوازية وطنية قادرة على أن تقوم بثورة ديمقراطية ، وعدم نضج طبقة عاملة حقيقية تؤلف شريحة متجانسة وواسعة تشكل الحامل الاجتماعي لثورة اشتراكية مقترحة ، فهذا يضعنا أمام خيار الكتلة التاريخية التي تمثل الشرائح الأكثر تضرراً من نموذج البنية الاقتصادية الاجتماعية القائمة ، وعلى الأغلب تتألف هذه الكتلة التاريخية في الوطن العربي من شرائح ثلاثة أساسية :
الطبقات الوسطى بشقيها العمال ، والفلاحين ، والمثقفين المستنيرين ، وبعض الفئات الفلاحية . وتشكل هذه الشرائح حلاً فيما بينها ضمن مشروع تغييري فيه القليل من الإيدلوجيا لصالح الكثير من المتطلبات لإعادة بناء المجتمع المهشم ومؤسساته المتهالكة .
وللإجابة على الشق الثاني من السؤال ، نقول :
إن محاولة الانتقال بالكتلة التاريخية من حالة السكون إلى حالة الحركة هي مهمة على غاية من الصعوبة والتعقيد في ظل الآليات الداخلية للهيكل البيروقراطي للسلطة في الوطن العربي .
ولكن تبقى هناك بعض الوسائل الضعيفة الفعل على الصعيد الملموس ، ولكنها تمثل خياراً في إطار الممكن ضمن شروط الواقع ، وذلك الخيار هو الارتفاع بدرجة فاعلية تنظيمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية ، والتي ابتدأت تكشف عن بصيصٍ من النور كما في بعض التجارب الرائدة في بعض البلدان العربية مثل اليمن ومصر والمغرب .
وتتركز وظيفة مؤسسات المجتمع المدني حول محورين اثنين :
الأول : هو الجهد التنويري الثقافي ، والثاني : محاولة إعادة تحريك العملية الإنتاجية في المجتمع وحتى لو كان من نموذج الإنتاج البضاعي البسيط ؛ مؤسسة بذلك إلى عملية وقائية دفاعية ضد الانحدار المريع في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية نحو القاع الاجتماعي اقتصادياً ، وما يستتبع ذلك من غياب وتغييب فكري وإيدلوجي .
وختاماً : أقول بأن التاريخ حركة لولبية متصاعدة دائمة ، ومستمرة ، لا تعرف السكون ، وكذلك هي الشعوب طاقة كلية هائلة تمتلك إمكانيات التحول الجدلي من الشكل الكامن إلى الحركي ، وانطلاقاً من جدلية الحركة هذه أكرر بأن الأفكار تعبر عن منظومات وأنساق معرفية خاضعة لقانونية النفي الجدلي والتطور ؛ ولا تكتمل إلا من خلال التجربة والحوار وتوحيد الطاقات .


مصعب عزاوي
طبيب عربي مقيم في لندن
1- G. W .F Hegel, The selections , Moscow , Meerpubl . shens , 1982 , part2 , page /2/
لينين ، الدفاتر الفلسفية ، دار المقيفة ، بيروت ، ترجمة الياس مرقص ، 1983 .
2- المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ، توفيق المدني ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 1997 .

3- معالم على طريق الوضوح المنهجي ، د. طيب تيزيني ، دار ابن خلدون ، دمشق ، 1986 .





1-المرجع السابق ، وكذلك انظر : تاريخ الأقطار العربيةالحديث ، لوتسكي ، درامير ، موسكو ، 1979

2- H . Grimol , La decolonisation de 1917 a nos jours , paris , 1989

3- مصر مجتمع يبنيه العسكريون ، أنو عبد الملك ، دار الطليعة ، بيروت – 1966 .

4- الامبريالية وقضايا التطور الاقتصادي في البلدان المتخلفة ، ترجمة عصام الخفاجي ، بيروت 1974 .










1- مشكلات بناء الدولة الحديثة في الوطن العربي ، د. مسعود ضاهر ، مؤسسة عيبال لدراسات والنشر ، نيقوسيا ، قبرص ، 1994

2- التنمية في الوطن العربي ، ندوة ، سمير أمين وآخرون ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 1992 .

1- تقرير اللجنة الثقافية الصادرة عن ملتقى الشباب العربي في دورته التاسعة ، مصعب عزّاوي وآخرون ، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية 1998 .

2- Glamsci , Antonio ( 1983 ) selections From The prison Noteboohs , newyork ,international publishers , seventh printing





    رد مع اقتباس