الموضوع: أوطـوسـطـوب...
عرض مشاركة واحدة
قديم 2011-03-06, 19:06 رقم المشاركة : 1
نورالدين شكردة
أستـــــاذ(ة) متميز
 
الصورة الرمزية نورالدين شكردة

 

إحصائية العضو







نورالدين شكردة غير متواجد حالياً


c2 أوطـوسـطـوب...


أوطـوسـطـوب...




ـ نورالدين شكردة ـ




توالت السيارات الواحدة تلو الأخرى، ولم تكثرت أبشعها شكلا وتصنيعا، ولا أقلها ثمنا وخيولا بتوحيمة الجيلالي الغارقة في البلل، وهو يشير متوسلا مستجديا لعربات النقل العابرة بالتوقف...



تأبط محفظة سفره وسار محبطا في اتجاه السيارات فارا من قذارة التخلف، ورتابة الدواوير، وجوع وبؤس القفار. امتطى المسكين خياله وركب الفينيق والعنقاء والرخ والتنانين والديناصورات، بل وحتى سجاد علاء الدين ولم يرق لحاله قلب سائق منتش بأهازيج العيوط وصيحات الشيخات.. فجأة أفاقه من تعبه وأحلامه صوت آمر:



"اطلع بالخف يالاه سربي... راه الناس مازالا كتسنانا فالطريق". وقفز الجيلالي على درجات حافلة انتشلته من ضياع الطريق...



وهو يقطع المسافة الفاصلة بين مدينته الأم، وبين أقرب طريق معبد من فرعية عمله، يضطر الجيلالي حلق ذقنه مرتين داخل حافلة للنقل تعود ملكيتها للاعب كرة قدم محترف، لم يجن من ورائه المنتخب غير المتاعب والهزائم، بل وحدث أن مرر مهاجم فريق خصم الكرة من بين رجليه وسجل هدفا أقصانا من كل التظاهرات. وعلى الرغم من ذلك لا يزال يتحكم في جزء كبير من أرزاق ومصائر مستضعفي نفس وطن المنتخب.



بعد المسافة الفاصلة بين مقر عمل الجيلالي القابع فوق ثان أعلى قمة جبلية أطلسية ومسقط رأسه يجعله يقضي أوقاتا طوالا داخل شبكة المواصلات الوطنية، يحرر خلالها الرسائل، ويكتب الجذاذات، ويسطر الجداول، ويقص شعره وأظافره، ويتوضأ الوضوء الأكبر والأصغر، ويتيمم، ويتراسل، ويلتهم الروايات وأمهات الكتب، ويهاتف، ويرتاد الصيدليات والمستوصفات، بل ويصادق على بعض الوثائق الإدارية بمقاطعات البلدات التي يمر عبرها...



أخبره أحد أصدقائه ب"فم زكيد" أن الرئيس زين العابدين بن علي فر من تونس وترك خزانات ملأى بالعملة وبالذهب. وب"تازناخت" وصله نبأ إزاحة حسني مبارك عن السلطة ومصادرة ملاييره المحنطة بمصارف سويسرا، وما إن وصل إلى "بومالن دادس" حتى استمع غير مصدق لخطاب كاريكاتوري للعقيد معمر القذافي ينبئ بقرب اغتياله أوانتحاره... عندما وصل إلى مدينة فاس وجد "شباط" لايزال عمدة لها، والكثير من أبناكها قد حرقت ونهبت...



كان الجيلالي يكبر من حيث لايدري وهو مسافرعبر طريق لا تنتهي، فتزداد صلعته اتساعا وتتغير أحداث العالم وهو لم يصل بعد لمحطة مدينته...



يستهزئ الجيلالي بموال مدونة السير وقد أصمت وسائل الإعلام منذ شهور آذان المشاهدين وأعينهم بترديد بنوده وفضائله وحسناته، وهو من يقطع أزيد من خمسين كيلومترا غير معبدة للوصول إلى فرعية عمله، ومئات الكيلومترات الغارقة حفرا ومنعرجات، ويتوقف الدم عن التدفق إلى رجليه وهو ينكمش داخل مقعد جلوسه الضيق بحافلة مدافع المنتخب.



"حنيو ريوسكوم ...الباراج قريب"، صرخ الكورطي آمرا.



لم يمثتل الواقفون لأوامر عميد الحافلة، فصرخ مزمجرا: " أحنيو ريوسكوم الله ينعل الأصل د...."



حشر أحدهم جثته تحت أرجل الجيلالي، واتضح فيما بعد أنه إطار محترم تابع لإحدى مؤسسات الدولة، هذه الدولة التي لا يفتر الجيلالي عن لعنها ما دامت لا تمنح موظفيها وأساتذتها وجنودها من المال ما يكفي لاقتناء سيارة، وبالمقابل تغدق على لاعبيها وراقصيها ومغنيها وخائنيها ومبتزيها بمأذونيات للنقل الطويل، والصيد في أعالي البحار، ورخص لاجتثات مقالع الحجارة والصخوروالرمال....



"حمدا لله أنه ليست هنالك مقالع للهواء والأوكسجين..." تحسر الجيلالي متبرما.



" صافي دابا غير نوضو وقفو" جهر الكورطي آمرا.



لم يقف موظف الدولة بعدما استعذب جلسته الأريح وحلويات الجيلالي المتوالية،



ابتسم قابعا تحت أرجل الجيلالي وأردف:



" أتعلم أن جل المترددين على مكتبي يلجونه مطأطئي الرؤوس، منكسيها، داسيها بين أكتافهم. وها أنذا أتكوم الآن مثل قنفذ متخفي، بالمناسبة، سأظل هنا، فرصة للتعارف والانتصار على ملل السفر". يدرك الجيلالي أن رفقاء السفر يحلو لهم الكشف عن كل أسرار حيواتهم ومطامحهم وعلاقاتهم، بل ومستعدون لاستقبالك ببيوتاتهم وتزويجك ببناتهم، ومقاسمتك حميمياتهم فقط لأنك شاركتهم عناء الطريق ومقعد الحافلة المهترئ ورائحة التعب والقيء ...



رائحة القيء عبقت المكان، وأصوات حشرجات المتقيئين بدأت تأتي من هنا ومن هناك، صدى تدفق الأطعمة والسوائل والمخاط والبزاق من أفواه المسافرين يجعل المرء يلعن نفسه ألف مرة، ويمنحها وسطى ممدودة في اتجاه الوجه لاختياراتها الخائبة، ولعدم قدرتها على اقتناء سيارة بعد ربع قرن من العمل، ربع قرن من العمل والجيلالي يشير بيمناه التي طالت بسنتميترات عن يسراه على السيارات بالتوقف وب"الأوطوسطوب".



ينتشي الجيلالي بخبر الإطاحة برؤساء العرب المجانين ويأمل سماع خبر إطاحة قريبة بحكومة مملكته وتعديلا كبيرا بدستور بلاده ب"زايدة" أو حتى ب"ميدلت".



"ما أدراني"، يتساءل الجيلالي ممنيا نفسه بواقع جديد، "قد نتمكن وقتها من اقتناء سيارات تحفظ لنا الكرامة وماء الوجه لوتخلصنا من شباط وياسمينة بادو وادريس لشكر ...؟



وهو يتأمل منهكا شبابيك الأبناك الأوتوماتيكية المكسرة بمدينته التي وصلها آخيرا، تذكر من جديد أنه لا يملك سيارة، ولم يتزوج بعد، ولا مدخرات بحوزته، وتذكر من جديد حبيبته "حنان" التي التهمتها الكلاب، وكل أشكال الزبونية والرشوة والإقصاء والتهميش والتفقير التي يعاني منها ساكنة الأحراش والدواوير، فاسترسل صارخا جاهرا مهرولا: الشعب يريد إسقاط الحكومة والفساد.. والبرلمان والإفساد.. وشباط والنواب .. والمحسوبية والخراب.. وياسمينة بادو ومنصف بلخياط والاستعباد .. والإجرام واقتصاد الريع والاستبداد .. وخديجة الرياضي والإلحاد .. وناهبي المال العام والاضطهاد.. وادريس لشكر و لاكريمات ديال الشيخات و ... وقبل أن يتمم لازمته انقض عليه مدنيان، دسا منشفة نتنة داخل فمه، حشراه قسرا داخل مقعد نفس حافلة اللاعب المحترف، قيداه بمقعدها المهترئ، سكبا عليه قيء المسافرين، وانطلقت الحافلة عائدة به صوب عين المكان الذي التقطته منه...










    رد مع اقتباس