عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-11-25, 21:12 رقم المشاركة : 1
مريم الوادي
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية مريم الوادي

 

إحصائية العضو







مريم الوادي غير متواجد حالياً


وسام المراقبة المتميزة

افتراضي مات جدي ..مات الحصان..


مات جدي ..مات الحصان..


مضى زمن وأنا أراود هاته القصة ..
حاولت كتابتها أكثر من مرة
لكنها لا تخرج كما أحببتها
بعض القصص تتمنع ..
وبعضها الآخر يرفض الخروج ..
ويفضل البقاء بين الضلوع..
قصتي هاته تحاكي الوجع ، وتفتح في الصدر ألف حكاية وحكاية من حكايات الألم والفراق..


كان القمر قد توسط قبة السماء ،والصيف قد ملأ البيادر بحبات القمح الذهبية ، اجتمع الرجال في ساحة القرية ،قرب دكان المعطي بائع التموين ،رجل قصير القامة ،بكرش صغيرة منتفخة، وصلعة تغطيها طاقية بلدية صفراء..
كان يقلب الدراهم وجها وظهرا ،ويتحسسها كالأعمى بأطراف أصابعه ،قبل أن يضعها في الدرج ،ويغلق بالقفل الحديدي ..
كنا أطفالا نلعب الكرة بكومة الكواغيط ، وقطع الثوب ،المربوطة بخيوط وأسلاك ..تتشتت الكرة، ونعيد تكويمها من جديد ،وننطلق في ساحة القرية بمحاداة جمع الرجال، الذين ينهروننا تارة ،يمازحوننا تارة ،ويشجعوننا تارة أخرى..
لكن بين هؤلاء الرجال، لم يكن يظهر لي وجهه الوقور..
كان ينزوي بعيدا، في مكانه المفضل قرب البيدر القديم ،حيث حجرة الكلس الكبيرة ، يرقب حركة القرية من هناك ..على يمينه آنية الماء الدافئ ، وبيده سبحة خضراء ،كان قد جلبها معه من مكة المكرمة ،حين حج راجلا ..
كانت هاته السبحة تنير ليلا كأنها مصباح صغير ،وكنت أحب ملامسة حباتها واللهو بها -خفية عنه -كانت سبحة مميزة جدا ،وكنت أحس بأن نورها مستمد من نور وجه الكريم، وطهر قلبه الطيب ،وصدق ايمانه الكبير..
وكان لجدي حصان عربي أصيل، يسميه أهل الدار بالأزرق ،لم يكن أزرقا ،ولكن يبدو أن شدة سواده جعلته يتموج بين الأزرق الملكي الساحر ،والأسود الوقور البراق..
وكانت بين جدي وهذا الحصان علاقة حب غريبة ،تراها العين، ويحسها القلب ،لكن لا تصفها الكلمات .
كان يقضي صحبته أجمل الأوقات وأمتعها ، يناجيه لساعات ، ويكلمه كأنه رجل صديق..
يمد له الشعير ،والحلبة في كفه ،ويعلف الحصان حبات الشعير في أدب ،وحياء ،كأنه يستشعر كرم اليد الممدودة، وأحيانا أخاله يقبلها ،ثم يهز رأسه ناظرا لوجه جدي شاكرا اياه..
كانت لحظة استحمام الحصان ،لحظة مقدسة ،تقام لها طقوس، ويستعد لها جدي بأيام ..وكانت لحظة خروج الحصان في نزهة محسوبة بالساعات والدقائق ،ويحبها جدي بعيدا عن عيون الحاسدين من أهل الدوار..
أما لحظة خروج الأزرق للمشاركة في فانتازيا المناسبات، والأعياد ،فتلك كانت لحظة فاخرة ،وعرسا أسريا ،يبدأ بتحميم الأزرق، وتمشيط شعره المتموج البراق ،وتسريح شعر ذيله الطويل ..
مازالت أتذكر ذلك السرج المراكشي المذهب ،المرصع بحبات العقيق الكبيرة، الخضراء، والحمراء.. سرج يخطف الأنظار، وحين يوضع على صهوة الأزرق ،يصيبك بالافتتان..
كما العريس يعده جدي لكل حفل شعبي، ولكل موسم محلي ..
ولا يخرج الأزرق من البوابة الكبيرة لساحة المنزل ، إلا تحت زغاريد النساء ،وتكبيرات الرجال ،ورقية جدي له ،الممزوجة بالخوف عليه، والتفاخر به..
سقط جدي طريح الفراش،بعد أن أصابه شلل نصفي ،،فصار لا يتحرك الا محمولا على أكتاف أخوالي من الرجال، يحملونه الى ساحة المنزل حيث مربط الحصان، ويجلسونه فوق كرسي أبيض ،قبالة حبيبه وصديقة ..
فترى الدموغ تنزل من عيني كليهما ،يبكي جدي لأنه ماعاد يستطيع مد كفه المملوءة بالحبلة ،والشعير ،للحصان ،ويبكي الحصان لأنه لم يعد يشم رائحة كف سيده الكريم..
ويجلس جدي لساعات طوال قبالة الحصان، ويقف الحصان قبالة جدي نفس عدد الساعات ،دون أن يمل أحدهما من الآخر.. يفرقهما نزول الظلام ..لتجمعهما من جديد شقشقة الفجر..
وفي صبيحة يوم باكر حزين..
استفقت على أصوات نحيب وبكاء، أصوات تنبعث من ساحة المنزل ،قفزت من فراشي حافية، لأجدني في الساحة أقف مع الواقفين ، أمام كرسي جدي وقد لفظ أنفاسه الزكية قبالة الحصان..
يبكي الرجال ،وتصيح النساء ،وأنا أبحث عن السبحة الخضراء ..
وبينما الرجال يحملونه على أكتافهم الى الداخل..
سمعنا صوتا قويا كالزلزال..
لقد سقط الحصان واقفا في ساحة المنزل الكبيرة ،تمرغ مرتين ،تناثر الغبار في سماء البيت الكبير..
خرجت رغوة بيضاء من فمه ،لفظ معها آخر أنفاسه..
مات جدي ومات الحصان ..
ومذ ذلك الحين والبيت الكبير،لا يدخله الفرح ،ولا يعمه الرزق كما كان ..
مريم الوادي
أواخر نونبر 2010





آخر تعديل مريم الوادي يوم 2010-11-26 في 12:56.
    رد مع اقتباس