عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-11-16, 12:25 رقم المشاركة : 1
أحمد القاطي
أستـــــاذ(ة) مشارك
 
الصورة الرمزية أحمد القاطي

 

إحصائية العضو







أحمد القاطي غير متواجد حالياً


a9 الحمل العجيب / قصة / أحمدالقاطي



الـــحــمــــل الــعـــجــيــب


في عـز شبابي، وقـوة بنيتي الجسدية ؛ مازلت أذكر أنا البدوي الكادح ، أنني كنت أقـطع مسافة طويلة مشيا على الأقـدام ،وذلك من البادية التي كـنت أسكن فـيها إلى المدينة كي أعمل أي عـمل يساعــدني عـلى كسب رزقي ، ورزق إخوتي الصغار . وفـي الطريق كان علي ــ يوميا ذهابا وإيابا ــ أن أمر من غابة البلوط المتـكاثفة الأشجار، المتـنوعة الأطيار ، المـتـرامية الأطراف ، المتـشعبة الشعاب ، والصعبة التضاريس ، الفاصلة بين قـريتي والمدينة . استمر هـذا الحال مـدة طويلة ، إلى درجة أنه أصبح أمرا عاديا بالنسبة إلي ، لم يحصل فيه مرة واحدة أن تخلفـت عـن الذهاب إليها ، أو العودة إلى قـريتي التي أحببتها لطبيعتها وناسها الطيبين البسطاء النّـِـشاط كالنحل . لا تكاد شمس النهار تبزغ حتى تراهم وقـد هـبـوا عـن بكرة أبيهم للعمل والكـد والبحث عـن أرزاقهم ، غيـر متأفـفـيـن ولا شاكين طبيعة العمل الذي يزاولون .
وفي بداية أحد الأسابيع الخريفـية ، ألح عـلي عيسى أحد أصدقائي في العمل ، أن أحضر معه وليمة عـقـيـقـة ابنه البكـر . وبما أنه كان أعـز الناس إلي بعد عائلتي ، لم أمانع . لبيت دعوته . وقـبل الذهاب عنده ، عـرجت على مكان للتسوق ، واشتريت لابنه هـديـة متواضعة ، ولكـنها بالـنسبة إلي، وإليه كانت ذات دلالات عــميقــة. ويمّمت الصيدلية الـقـريبة واشتريت الــدواء لأمي المريضة .
حضرت الوليمة ، إلى جانب ثلة من المدعـوين من أصدقاء عيسى ، وبعـض أفراد عائلته المتمدنين المتعلمين الذين كانوا بين الـفـيـنة والأخرى ينطقـون ببعض الكلمات الأعجمية رغـبة في التميـز وإثارة الانـتباه إلـيهم ، لكن عـيسى بـدعابته المعهـودة ، وروحه المرحة ، كان لا يترك الفـرصة تمر دون أن يعلق عليهم محاولا تـقـلـيدهـم والنطق مثلهم. لكن لسانه كان لا يطاوعه مما كان يثيـر ضحك الجميع ، فـيطالـبونه بإعادة التلفـظ بتلك الكلمات بحجة أنهم كانوا منشغلين ، وأنهم لم يستمعوا إلى ما قاله. وتحت إلحاحهم الشديد كان ينزل عـند رغـباتهم ويعيدها من جـديد وهـو واثــق من نفـسه ومما يقـول. وما يكاد ينتهي حتى ينخرط في الضحك كل الحاضرين الذين تتعالى ضحكاتهم وتعم كل أرجاء الغرفة إلى درجة أن هناك من يبكي ، وهناك من يشد على قـفاه من الألم الذي يحدثه له الضحك . وهكـذا قـضينا أمسية ممتعة نسينا معها أوصاب الحياة وأوجاعها ولو لفـترة وجيزة، أعادت إلينا توازننا النفـسي الذي كنا في حاجة إليه. وبعد انقضاء الوليمة ، كان الليل قـد أرخى سـدوله على المدينة، وكان علي أن أعــود إلى قـريتي كي أسلم الدواء الذي اقـتـنـيته لأمي . وهكذا وكالعادة قـفـلت راجعا، وتفكيري كله منصب على أمي المريضة، وعـلى يوم الغد ، والقـيام باكرا، حتى لا أتخلـف عـن عملي وأعـرض نـفـسي للطرد. مشيت بضعة كيلومترات ، كانت كافـية لأتــرك خلـفي المدينة ، وأبتعـد عـنها ، وأصل إلى غابة الـبـلوط الهادئة الوديعة ، فـبدأت أغني علني أنسى طول المسافة المتـبـقـية التي ينبغي علي قطعها . وفجأة وعلى بعـد، ومن خلال ضوء الـقـمر الخافت المتسلل من بين أغصان الأشجار الكـثيفة، رأيت شبحا ما يتحرك ، فخفـت في البداية أن يكون لصا يتربص بي الدوائر، فـبدأت أتقدم، وأنا متأهب لكل الاحتمالات ، وكلما دنوت، كلما اتضحت الأمور أكثر فأكثر، إنه مجرد حمل صغير، قـد يكون تخلف عن القـطيع، هكذا قـلت في نفـسي. تابعت السير نحوه في اطمئنان تام ، ولما وصلت عـنده بقي ثابتا في مكانه لم يهـرب، ولم يبد أي محاولة للـفـرار أو الابتعاد. أخـذتـه، وحملـته بين ذراعي، وفي نيتي أنني سوف أسلمه إلى صاحبه بمجرد ما تسفــر شمس الصباح ، ويطلبه أحـد الطالـبـيـن. تذكرت أمي المريضة، وبدأت أحث الخطو عـلني أجدها مستيقـظة تنتظرني كي أسلمها الدواء لتتناوله قبل أن تنام. وفي غمرة تفــكيري هذا، ألـقـيت نظرة خاطفة على الحمل الذي كنت أحمله، متعجبا كيف أنه لم يتحرك منذ حملته . وبدأت أتساءل ربما قـد يكون مريضا ولذلك تخلف عن قـطيع الغنم، أو ربما قـد يكون حديث الولادة فـلم يقـو على متابعة سير القـطيع . لم يتوقـف حبل تساؤلاتي إلا عندما لاحظت أن لون الحمل قـد تغير من الأبيض إلى الأسود.لعنت الشيطان، وقـلـت في نـفـسي: إنه الكرى فـقـط بدأ يغالب جفني، بسبب الوقت المتأخر من الليل ، وعـدم تعودي على السهر. أعـدت النظر إليه من جديد رغـبة في التأكد، فإذا اللون قـد تغير هـذه المرة من الأسود إلى الأصفـر، نعم أنا مـتـيـقـن إنه أصفـر. ازدادت شكوكي ومخاوفي في آن واحد . ما المعمول يا إلهي ؟ لم أجد من حيلة سوى الإسراع أكثر وعدم النظر إليه . تابعت سيري ، ولما وصلت إلى خربة مهجورة تبعد بحوالي كيلومترين عن منزلنا ، لاحظت هذه المرة أن ثقـل الحمل قـد ازداد عما كان عليه عندما حملته أول مرة . تجاهـلت الأمر، ولما ابتعدت قـليلا عن الخربة ، ألقـيت نظرة عـليه لأصاب بالصدمة الكبرى ، إنه ليس حملا ، إنه شيء آخر لم أتبين صورته جيدا لكثرة هـلعي ، إنه يريد أن يخنقـني، إنه جني . رميته أرضا دون تفــكـيـر في العواقــب، وأطلقـت رجلي للريح غـير ملتفـت إلى الوراء ، أطوي الطريـق المتـبقــية طيا ، وكم طالت رغم قـصرها وقـربها من منزلنا . ولما وصلت ، بدأت أطرق الباب بعـنـف ودون توقــف إلى أن فـتح أخي الباب ، فـدخلت وأنا أكاد أجن مـن الفـزع غـيـر مصدق أنني قـد نجوت ، وغـير متوقـف عن تلاوة آية الكرسي ، وبعض الآيات الأخرى من القـرآن الكريم . فـتعجب أخي من أمري ، فهــو لأول مرة يراني على ما أنا عـليه من الاضطراب والإنهاك الواضح الجلي ، فانهال علي بوابل من الأسئلة المستـفـسرة عـن حالي ، لم أجبه عـن أي واحدة منها إلا بعد أن صفـعـني على خـدي كي يردني إلى صوابي ورشدي، فأخبرته بحكايتي من بدايتها إلى نهايتها ، وهـو جامد في مكانه لا ينبس ببنت شفة ، فحمد الله على سلامتي، وضمني إلى صدره كي يخـفـف عـني هـول الصدمة، ويشعرني بالأمان .




تازة في : 2 / 4 / 2006

أحمد القاطي من مجموعتي القصصية / حكايات عجيبة / ط : 1 / 2007
، ص : 25 إلى 30



















    رد مع اقتباس