عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-08-31, 18:00 رقم المشاركة : 1
محمد يوب
أستـــــاذ(ة) مــــاسي
إحصائية العضو








محمد يوب غير متواجد حالياً


وسام المشرف المتميز

افتراضي "مسلسل باب الحارة" مشروع رؤية قومية عربية



"مسلسل باب الحارة"

مشروع رؤية قومية عربية

عندما يعجز الإنسان عن تحقيق آماله وطموحاته على مستوى الواقع ، يلجأ إلى المتخيل الفردي أو إلى المتخيل الجماعي الشعبي ، ويفسح له المجال ، للتحليق عاليا في أجواء من الصور و الأخيلة الجميلة.

وما مسلسل باب الحارة إلا نموذج من نماذج هذا الأمل في تحقيق مشروع قومية عربية ، الذي استحال تحقيقها على مستوى الواقع فلجأ طاقم الإنتاج و الإخراج و الممثلين ، لتحقيقها على مستوى المتخيل ، للتعبير عما يخالجهم من متمنيات اصطدمت مع أهداف ومصالح جهات أخرى محلية وإقليمية ، ودولية ، فنقلوا هذه الأحلام من مستوى الواقع إلى مستوى الأشرطة السينمائية و التلفزيونية .

إن أول عتبة تواجهنا عند دراسة مسلسل باب الحارة ، هي عتبة العنوان الذي يبهر المشاهد بشكله السميائي العريض ، الذي يحيل إلى دلالة سميائية أخرى ، تشير إلى عظمة وقوة سكان حارة الضبع .

هذا الاسم الذي يرمز بشكل إيحائي إلى هذا الحيوان المفترس الخطير ، الذي لا يميز بين اللحم الطري و اللحم النتن ، كما أن عنوان المسلسل كتب باللون الأحمر القاتم ، الذي يشير إلى لون الدم ، لون المواجهة والمغامرة الشرسة ، دون حساب لعواقب هذه المغامرة ، وخاصة عندما يتعرض أهل حارة الضبع لهجوم من أي عنصر خارجي غريب عن الحارة .

و مما يزيد من عظمة وقوة العنوان ، المقطع الموسيقي الذي انتقاء المخرج بدقة متناهية ، لأنه يلائم حركية المشاهد وشراستها ، فكانت الأصوات الكورالية ، والمقاطع الموسيقية على السلم الموسيقي العالي (grave) الذي أعطى للمقدمة ما تستحقه من العناية ، لشد انتباه و اهتمام المشاهد من أجل متابعة مركزة تساير أحداث المسلسل طيلة ثلاثين حلقة .

إن عتبة العنوان بأيقونيته الكتابية الكبرى، والصخب الكبير الذي تحدثه الأصوات المرافقة للمقطع الموسيقي ، علامات تمهد المشاهد لمتابعة مسلسل ضخم وكبير، من حيث مكانة الممثلين و أدوارهم ، و الحمولة السياسية و الدلالية التي يريد المخرج إيصالها إلى المشاهد العربي ، بأسلوب إيحائي يميل إلى الترميز ، وضرب الأمثال بأشكال حكائية شعبية .

إن المشاهد العربي البسيط يتعامل مع المسلسل من زاوية ضيقة ، يتعامل مع المشاهد على أساس أنها تصوير لمشاهد و مقاطع من الحارة الشامية في مطلع القرن العشرين إبان فترة الاستعمار ، بينما المشاهد العضوي الذي يقرؤ ما وراء الأحداث ، يهتم بما توحي به هذه المشاهد من دلالات ترميزية ، يستشفها من خلال هذه المشاهد التي تنهض على مستويات مختلفة ، لإعطاء صورة لخطاب ضمني ، مضمر تتضمنه المشاهد التلفزيونية.

فحارة الضبع أولا هي إحدى حارات الشام ، التي اعتاد الشاميون تسمية حاراتهم بأسماء حيوانات شرسة ، للدلالة على شراسة أهلها عندما يتعرضون لأي اعتداء ، وفي نفس الوقت هم كرماء عندما يلجؤ إليهم كل من يحتاج إلى مد يد المساعدة ، فتجدهم سباقين إلى تقديم المساعدة المادية و المعنوية ، و هذا ما لاحظناه من خلال مواقف العقيد ( أبي شهاب ) ، الذي كان يتعامل بأسلوبين أسلوب القوة عندما يحتاج الموقف إلى القوة و الصلابة ، كما يعتمد أسلوب اللين عندما يدفعه الموقف إلى إتباع أسلوب اللين .فكان ذكيا يعتمد سياسة العصا و الجزرة ،بأن يتخذ الموقف المناسب في المقام المناسب ..

وحارة الضبع تسير ضمن قانون محلي ، يناقشه سكان الحارة في المضافة ، التي تعتبر بمتابة برلمان محلي ، يضم رمزا دينيا متمثلا في الشيخ عبد العليم ، الرجل التقي ،و هو الرمز الديني الذي تتكتل حوله كل الفرق الدينية و السياسية ، فكان بالنسبة للحارة المرجع الذي تنتهي عنده كل الاحتمالات وخاصة عندما يزكي مواقفه بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية.

ونلاحظ بأن السلطة الدينية لا تتغير بتغير أحداث المسلسل ، لكن سلطات أخرى تتغير بتغير الشخصيات ، فتجد السلطة العسكرية التي يمثلها أبو شهاب ثم بعد ذلك معتز ، وهذه السلطة العسكرية التي تتخذ شكل نظام الفتوة بالمعنى الايجابي الذي يدافع عن المظلوم ، وتستظل تحتها كل فئات المجتمع .

والمتتبع للمسلسل يلاحظ بأن هذه الرموز العسكرية ، المتمثلة في العقيد ( وهو اسم يحيل إلى دلالات موجودة في واقعنا السياسي العربي ) رغم غيابها في السجن ، أو الهروب ، أو الموت ، لا تؤثر على السير العادي للحياة في الحارة ، لأن العقيد بالنسبة لسكان حارة الضبع يكون مجرد رمز فقط ، قد تسير الحياة السياسية بدونه إن دعت الضرورة ذلك ، وهذا هو الدلالة المقصدية من المسلسل ، وهو التأكيد على أن الدول العربية يمكنها أن تستمر وتكون قوية دون رموز ، وذلك عندما تكون متحدة و متلائمة ، وهذا يظهر من خلال مواجهة سكان حارة الضبع للدرك الفرنسي ، وصد هجوماته المتكررة دون حضور العقيد أبو شهاب ، بل أكثر من هذا هو أن المسلسل بقي قويا يجذب اهتمام المشاهدين رغم خروج أبطال رئيسيين منه إنجاز اللاحق من الأجزاء .

و مظاهر الوحدة العربية تظهر من خلال مساعدة الشعب الفلسطيني ، بالمال و النفس و العتاد ، فكانت الأسلحة ، تهرب عن طريق الأنفاق من حارة الضبع إلى الحارات المجاورة ، ثم بعد ذلك إلى الغوطة ، ففلسطين ، من خلال قنوات متنوعة ، عبر الحارات المجاورة أو عبر شق أوحفر الخنادق و القنوات .

وقد ساهم في تهريب الأسلحة كل من المسلمين و النصارى ، وكانت أم جوزيف النصرانية التي ساهمت بشكل كبير في مقاومة العدو ماديا و معنويا ، إلى درجة أن الدرك الفرنسي أحس بخطورة هذه المرأة المقاومة ، فاستغل بيتها كمخزن للأسلحة ، ومقر لمبيت الجنود .

وبين سكان حارة الضبع و المستعمر الفرنسي ، نجد مجموعة من المواطنين الذين كانوا يمثلون الطابور الخامس ، لما يقومون به من أدوار تجسسية استخباراتية ، وهم يتحركون انطلاقا من منظور ضيق ، قائم على المصلحة الشخصية و الربح المادي ( علاوات) أو كسب معنوي ( وظائف) في الشرطة أو في سلك الدرك .

لكن من حين لآخر يستيقظ الوعي القومي و الوطني ، وينهض ضد المستعمر ، ومن ثم ينحاز ليجد نفسه ضمن عامة الناس ، ويصبح مناضلا من موقع وظيفته ، مثل مانرى في مشهد الدركي (سمعو) الذي فر في النهاية من وظيفته العسكرية ، متوجها إلى الغوطة مساعدا لأصدقائه في الكفاح المسلح ، مستعينا بتجاربه في هذا المجال.

و الملاحظ من خلال تتبعنا لهذا المسلسل ، هو تصويره للوضع العربي المتأزم الذي تنعدم فيه صور الثقافة و العلم ، فلا نجد أثرا للمكتبات و لا للمدارس ولا للحديث عن الفكر و المعرفة ، باستثناء دور الدكتور الذي تعلم خارج الحارة ، وكان له دور إيجابي في الحركة الوطنية ، وذلك بعلاج المرضى و الجرحى ، ونقل أخبار المقاومين وخططهم الحربية التي كانت تعتمد أسلوب حرب العصابات ،بالاضافة إلى الدور الذي كان يقوم به الشاب ( أدهم ) من حارة الماوي ، هذا الاسم الذي يحيلنا بدوره إلى الحركة الماوية في الصين. .

و الفضاء الذي يتحرك فيه الأبطال ، هو فضاء يهتم بشيئين هما :البطن و الفرج ، وكأن الإنسان العربي لا هم له إلا هذين الأمرين ، ، وهذه المشاهد تدفعنا للحديث عن تيمة المرأة في المسلسل ، التي صورها المسلسل بأنها تلك المرأة المشتهاة ، المخلصة لزوجها في حضوره أو أثناء غيابه ، فهي المرأة التي تكنس و تطبخ و تلد ، وتسمع أوامر الرجل ( أنت تاج راسي ) بل هناك مشهد في المسلسل يبين المرأة وهي تغسل رجلي زوجها .

وهناك ظاهرة أخرى هي الزواج المبكر الذي يظهر عقلية الإنسان العربي المتعصبة ، التي ترى في الفتاة مصدر الفضائح لذلك وجب التخلص منها وتزويجها في سن صغيرة .

ولمواجهة المستعمر الفرنسي على المستوى الاقتصادي بين المسلسل كثيرا من الصناعات التقليدية المغرية كما نرى في النقوش التي تزين مضافة (أبو شهاب) ، هذه الصناعة التي تغني الإنسان العربي عن الصناعات العصرية الفرنسية ، وبهذه الوسيلة يمكن القضاء على الاقتصاد الفرنسي ، الذي يمول الحرب و الاستعمار.

و كان لبعض الصناعات التقليدية دور كبير في حماية ما يحتاجه سكان أهل حارة الضبع ، من أكل وشرب أثناء فترة الحصار ، التي اكتشف سكان الحارة كثيرا من الوسائل لتكسيرها ، مثلا بواسطة تمرير البضائع عبر السطوح ، أو حفر خنادق تحت الأرض و هذه إحالة إلى الخنادق التي اعتمدها سكان أهل غزة في فترات الحصار الإسرائيلي .

و في النهاية نقول : إن المتمعن في مسلسل باب الحارة في كل أجزائه ، يشعر بأن المخرج يوجه رسالة إلى المشاهد العربي ، مفادها أن قوة العرب في توحدهم ، وأن ضعفهم يكمن في تفرقهم . وهذه الرسالة القومية العربية ، تكلف بإيصالها إلى المشاهد ، كل أبطال وطاقم المسلسل ، من خلال نبرة الصوت السوري الجهوري ، ومن خلال رؤية وزاوية أيديولوجية يؤمن بها هؤلاء الأبطال .

فيشعر المشاهد العربي بأن لغة المسلسل ، تتضمن رؤية فكرية مستقبلية ، تؤسس لمشروع رؤية قومية عربية ، استحال تحقيقها على مستوى الواقع ، حاول المخرج تحقيقها عبر مسلسل تلفزيوني ، تنتهي هذه الوحدة بانتهاء حلقات المسلسل ، ليعود العرب مرة أخرى إلى الفرقة و الهوان ،بانتهاء المسلسل و انتهاء شهر رمضان.

محمد يوب

31.08.10






التوقيع

    رد مع اقتباس