عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-06-27, 18:52 رقم المشاركة : 1
الثغرالباسم
أستـــــاذ(ة) ذهبــــي
 
الصورة الرمزية الثغرالباسم

 

إحصائية العضو







الثغرالباسم غير متواجد حالياً


افتراضي الكوميدية الإلهية - درب الياسمين لدانتي اليجيري ..{مسابقة الامبراطورية}


وسطَ الدربِ، في رحلةِ حياتِنا، ضللتُ سواءَ
الطريقِ، و أفقتُ لأجدَ نفسي
وحيداً وسطَ غابةٍ سوداءَ، فماذا أقول؟


يا لها من غابةٍ! لم أرَ من قبلُ شيئاً شبيهاً
بظلمتِها، بقسوتِها، بوحشتِها
مجردُ ذكراها، تصنعُ شكلاً للخوف.
...
بهذه الكلمات يبدأ الشاعر الإيطالي "دانتي إليجيري" ملحمته الشهيرة "الكوميديا الإلهية"، حيث يفتتح الكانتو الأول (النشيد الأول) و هو ضائع في دغل أسود، كناية عن المعصية و الضلال، و حينما يهمُ بالصعود إلى تلٍ منير تسطع فوقه الشمس، يعترض طريقه ثلاث وحوش: النمر، و الفهد، و الذئبة، و هي تدلُ على المعاصي الثلاث حسب الفلسفة الأرسطية: العنف، و الغدر، و الضعف Incontinence. وسط حيرة دانتي، يظهر فيرجيل، مؤلف الإنياذة the Aeneid ، و رمز العقل البشري، و أستاذ دانتي الشعري، ليخبره أن الطريق الوحيد للوصول إلى الجنة هو الغوص في أعماق الجحيم، و معرفة الخطايا، و من ثم المرور بالمطهر.. و من هنا تبدأ الملحمة.



أحد أشهر فصول الجحيم في الكوميديا الإلهية هو ذاك الفصل الوارد في الكانتو الثالثة و الثلاثين، و التي يحكي فيها دانتي على لسان الكونت أوجولينو حكايته الحزينة في السجن، و كيف قضى جوعاً وسط الزنزانة مع عياله. دانتي يلتقي بالكونت أوجولينو في آخر مراحل الجحيم، عندما تتبدل طبيعة جهنم من شدة الحرارة إلى شدة البرودة، حيث يقترب دانتي بصحبة فيرجيل إلى حيث الشيطان مكبل، أدنى درجات الجحيم، حيث الخونة ضد أهاليهم و ضد وطنهم وضد أصحابهم.


هناك يجد دانتي المعذبين و هم مغمورون حتى رقابهم بالجليد، حيث حتى الدموع تتجمد من البرد، و كلما زاد الإثم، كلما امتد الجليد للأعلى كي يحرم حتى الأنفاس من تدفئة أصحابها.


هناك توقف دانتي عند منظر بشع و مقزز، حيث وجد رجلاً مغمورا في الجليد حتى رقبته و هو ينهش في جمجمة رجلٍ آخر مغمور أيضاً. طلب دانتي من فيرجيل التوقف، و سأل الرجل عن حكايته و عن سبب نهشه جمجمة قرينه، و هنا حكى الكونت أوجولينو قصته مع رئيس الأساقفة روجيري، و الذي زجّ به مع عياله في الزنزانة.


تحدثنا كتب التاريخ، بأن الكونت أوجولينو كان قائداً للجوبلين في بيزا، و هي مجموعة سياسية تنهاهض الجوليفز (الذئاب). قام الكونت أوجولينو بالتحالف مع رئيس الأساقفة روجيري، و غدر بابن عمه جيوفاني و قام بقتله. و لكن رئيس الأساقفة سرعان ما غدر هو الآخر بالكونت، حيث رماه مع أبنائه في البرج، و أمر الحراس بإقفال باب البرج إلى الأبد، حتى قضى الكونت مع أبنائه في السجن جوعاً.






رفعَ الآثمُ رأسهُ من أكلتهِ الشنيعة
و مسحهُ في شعرِ ذاك الرأسِ الدامي
الذي لم تكد تبقى من قفاه حتى قطعة.


أخيراً بدأ حديثهُ: "تسألني أن أجددَ
حزناً شديدَ الإتلافِ بحيثُ أنّ مجردَِ
فكرةِ الحديثِ عنه تمزقُ قلبي نصفين.


و لكن إن كانت كلماتي بذرةً تحملُ
ثمرةَ العارِ إليهِ – هذا الذي أمضغُ،
إذن فلسوفَ أبكي، و أخبرُ القصةَ خلفَ دموعي.


من أنتَ، و بأيّ قوةٍ استطعتَ الوصولَ
إلى هذا العالمِ السفليّ، لا يمكنني أن أحزرَ،
و لكنكَ تبدو لي من حديثِكَ فلورنسياً.


كنتُ أدعى الكونت أوجولينو، و يجبُ أن أشرحَ؛
سماحةَ الحاثمِ أمامي رئيس الأساقفةِ روجيري
الآنَ سأخبركَ لماذا أنهشُ دماغَه.


ذلكَ لأني، أنا من وثقتُ به
كان عليّ أن أسجنَ حتى الموتِ بسببِ خداعِه،
سوفَ تعلمُ الآنَ ما لا كنتَ تعلم –


أقصدُ بذلك موتي الذي قاسيت،
موتي المتباطئ عديم الانساينة- سوف أخبركَ بالكامل:
و بعدَ ذلك أحكمْ بنفسِك إن كان قد أذنبَ بحقي








نافذةٌ ضيقة في قفصٍ من الحجارة
يُدعى الآنَ برجَ الجوعِ على شرفي
(لا يزالُ الناسُ يمشون بجوارِه)


أطلعتني على أقمار متضائلةٍ عديدة
ما بينَ أعمدتِها، و عندما نمتُ تلكَ النومة الشريرة
التي انكشفت من خلالها غلالة المستقبلِ أمامي.


هذا الوحشُ ظهرَ كرئيسٍ للصيد
يلحقُ الذئبَ و جرائه عبرَ الجبالِ التي تخفي
روكا عن بيزا. جرى الأبُ و أبناءهُ


مسافةً قصيرةً عندما انقطعت أنفاسهُم
و أدركهم الضعفُ؛ و عندها أظنني رأيتُ
جوانبهم و هي تتمزقُ تحتَ نواجذِ الكلابِ المتوحشة.


قبلَ الفجر، و الحلمُ لا يزالُ في ذهني،
استيقظتُ لأسمعَ أبنائي المحبوسين معي،
يبكونَ وسطَ نومهم المعذّب، طالبين قطعةَ خبز.


أنتَ القسوةَ بعينِها، لو أنكَ استطعتَ أن
تكبحَ الدمعَ الذي يترقرقُ على نذيرِ الشؤمِ
الذي سطعَ في قلبي؛ و لو أنكَ لم تبكِ،


إذن لأجلِ ماذا تبكي؟ -الساعة التي يُجلبُ فيها
الطعامَ اقتربت. و استيقظ عيالي،
كلُ فردٍ منهم قلقٌ من مزاجِ حلمهِ الأسود.


و من قاعدةِ ذلك البرجِ الرهيب استمعتُ إلى
أصواتِ المطارقِ و هو تهوي مغلقةً البوابة:
حدقتُ في وجوهِ عيالي بدون أيّ كلمة.


لم أبكِ: فلقد تحولتُ صخرةً في الداخل.
همُ الذين بكوا: "ما الذي يزعجكَ يا أبانا، تبدو غريباً،"
حبيبي أنسلم، أصغر أبنائي، رفعَ صوتَه.


و لكني لم أنبسْ بكلمةٍ، لم أذرفْ دمعةً واحدة:
لا طوالَ ذلك اليوم، و لا طوال تلكَ الليلة،
إلى أن رأيتُ شمساً جديدةً تشرق.


عندما تسللَ شعاعٌ نحيلٌ عبر الزنزانة
و رأيتُ وجوههم الأربعة و قد ارتسم عليها
نفسُ الخوفِ و نفس الهزال اللذين اعترياني،


عندها عضضتُ يدي من الأسى، فحسبوا
أنني أمضغُ نفسي جوعاً. نهضوا
دفعةً واحدة، سمعتهم أمامي يصرخون:


"أبانا، سوف يكونُ الألمُ أقلََّ إن أنتَ
أكلتنا: أنتَ من وضعَ هذا اللحمَ الملعونَ
على عظامِنا، حقّ لكَ أن تنهشَه."


هدأتُ من روعي، لأجلِهم. آهٍ، أيتها الأرض،
لماذا لم تتثاءبي لتبتلعينا؟ طوالَ ذلك اليوم
و ما بعدَه، جلسنا في صمتٍ. و في اليومِ الرابعِ،


جادو، ابني الأكبر، سقط أمامي صارخاً
ممداً تحتَ قدميّ، فوقَ أرضيةِ السجنِ:
"أبي، لماذا لا تفعلُ شيئاً؟" و عندَها مات.


و كما أنتَ تراني، رأيتُهم أمامي يتساقطون
الواحد تلوَ الآخر، في اليومين الخامسِ و السادس.
و بعدَها، و قد فقدتُ بصري، بدأتُ بالزحفِ


من جسدٍ إلى جسدٍ، و أنا أهزهم بأسىً.
ليومينِ ناديتُ باسمائهم، دونَ أن يجيبوا
و حينَها، غلبني الجوعُ، و غلبَ حزني أيضاً."


عيناهُ ضاقتا إلى شقين عندما فرغ،
و سرعانَ ما انكبّ على الجمجمةِ ينهشُها بين أسنانِه
كما لو كانَ كلب درواس ينهشُ عظماً.





أحد خصائص الكوميديا التي تجعلها عملاً أدبياً خالداً هو القصص المحكية و غير المحكية المختبئة في سطورها. لهذا السبب من المستحيل أن تقرأ الكوميديا بدون حواشٍ كافية تشرحُ ماهية الشخصيات الورادة في الكوميديا و قصصها المعلومة أو غير المعلومة من قبل متخصصي عصر النهضة و متخصصي دانتي.


واحدة من هذه القصص علقت في ذهني لمدة طويلة، قد يرجع ذلك إلى الطريقة التي ألمحَ فيها دانتي إلى القصة، دون أن يشرح تماماً ما حصل. هذه الطريقة الأدبية التي تشدّك بالإلماح أكثر منها بالتصريح نجحت تماماً كي توصل ما أراد دانتي إيصاله.


ففي الكانتو التاسع عشر، حيث وصل دانتي و فيرجل إلى الدائرة الثامنة من الجحيم، البولجيا الثالثة، حيثُ يُعذب الـ Simoniacs و هم رجال الدين الذين استغلوا منصبهم ليشوهوا الدين و ليسعوا في مصالحهم الدنيوية، و خصوصا أولئك الذين اعتادوا على بيع صكوك الغفران بمبالغ مالية. خصومة دانتي أليجيري مع البابا و رجال الدين معروفة و طويلة (رغم تدين الأول)، و لهذا صبّ عليهم دانتي جام غضبه، و استخدم مخيلته الخلاّقة كي يختار لهم العذاب الذي يناسب الجريمة التي ارتبكوها عندما سخروا بالدين و بطقوسه من تعميد و غفران.


ففي ذاك المكان، يُعذب رجال الدين وسط حفرٍ دائرية تستعرُ قيعانها لهباً، حيثُ يؤتى برجال الدين بعد مماتهم ليُكبوا على وجوههم وسط الحفر، فلا تُرى إلا أقدامهم المتشنجنة بسبب حرارة اللهب الذي يحترقون داخله.


عندما يريد دانتي وصف هذه الحفر، يشبهها بدوائر التعميد الرخامية الموجودة أمام كنيسة سان جيوفاني. ففي زمن دانتي، كان التعميد لا يمارس إلا بالسبت المقدس و بالأعياد، و هذا يسبب زحاماً هائلاً. من أجل ذلك، بنيت هذه الدوائر الرخامية، كي تحمي الرهبان و رجال الدين الموجودين وسطها من العامة، و كي يستطيعون أن يمارسوا التعميد على الحشود دفعاتٍ دفعات.






آهٍ أيتها الحكمة المالكة، كم يشعُ فنُكِ
في الجنةِ، في الأرضِ، و حتى في الجحيم!
بأيّ حكمةٍ تحكمُ قوتُكِ و تختارَ للعبدِ المكان!


لقد رأيتُ بجانبِ الجروفِ و على سطحِ الأرض
صفوفاً طويلةً من الجحورِ المحفورةِ وسطَ الصخر؛
كلها بحجمٍ واحد، و كلها دائري الشكل.


لقد بدتْ بالضبطِ بمثلِ حجمِ تلكَ الدوائرِ
الموجودةِ أمامَ حبيبتي سان جيوفاني،
بُنيتْ كي تحميَ الرهبانَ الذين أتوا للتعميد؛


(واحدةٌ منها، منذُ مدةٍ ليست بالطويلة، حطمتُ بفأسي
كي أنقذَ ولداً علقَ وسطَها و كادَ يغرقُ.
ليكن هذا كافياً كي يُخرسَ كلَ الرجال).


من كلِ فجوةٍ تنبثقُ قدما عاصٍ
تنبثقُ حتى الساق. و باطنا القدمين يحترقان
و مفاصلُ الساقين ترتعشُ و تطوّح في كلِ اتجاه.


رغمَ أنّ دانتي منشغلٌ بوصف المكان و الحديث عن ساكنيه، إلا أنّ شكلَ الحفر الدائرية الذي يشابه دوائر التعميد في سان جيوفاني، أعاد إليه ذكرىً أليمة، لم يكن مستعداً للحديثِ عنها طويلاً.


كما يظهرُ من النص، يبدو أن أحد الصبيان الذين كانوا يلعبون آنذاك وقع وسط إحدى هذه الدوائر الرخامية و علقَ فيها حتى كاد أن يغرق. عجزَ الناس عن استخراج الصبي العالق من الجحر الضيق. حينها، قام دانتي بتحطيم هذا المبنى الرخامي الذي يُفترض أن يكون مقدساً. هذا العمل عُدّ هرطقة و تجرأ على أماكن الرب بعرف رجال الدين، و لقد استغله أعداء دانتي (و بمقدمتهم البابا بونيفيس Boniface) كي يجّرموا دانتي و يخرجوه من الدين.


دانتي الذي يكتب الكوميديا و هو منفي و مشردٌ عن وطنه فلورنسا، لم يتمكن من أن يستعيد هذه الذكرى دون أن يلمحّ إلماحاً لتفاصيل هذه الحادثة، كي يخرسَ ألسنة أعدائه، الآن و إلى الأبد.







دليلي، الذي لم يشتتهُ ضجيجُ العصاةِ
ترجّلَ فوقَ القاربِ، مشيراً إليّ بأن أتبعَ:
و لم يتوقفْ اهتزازُ القاربِ حتى ترجلتُ فوقَه

و انطلقنا عبرَ الماءِ، مغادرينَ الشاطئ،
ذاكَ القاربُ العتيقُ يبحرُ بتثاقلٍ
لم يسبق له أن أبحرَ بمثلهِ من قبل.

و بينما نحنُ نعبرُ ذاكَ الوحل الميت،
ارتفعَ الطينُ أمامي، و من وسطهِ انبعثَ صوتٌ:
"من أنتَ يا من أتيتَ ها هنا قبلَ وقتِك؟"

أجبتُ: "إن كنتُ أتيتُ، ها هنا، فأنا لا أبقى.
و لكن أنتَ، من أنتَ، يا أيها الساقطُ و الوسخ؟"
فأجابَ: "أنا شخصٌ أبكي." فقلتُ:

"عسى أن تبكيَ و تنوحَ إلى أبدِ الآبدين،
إذ أني أعرفكَ، يا كلبَ جهنم، حتى بوساختِك هذه."
عندَها مدّ ذراعيه نحوَ القاربِ، و لكنَ

أستاذي قذفهُ بعنفٍ وسطَ النهرِ صارخاً: "إلى الأسفل،
إلى الأسفل، مع باقي الكلاب!" ثمَ عانقني قائلاً:
"أيتها الروحُ المترفعة، أقبلكَ جزاءَ صنيعِك،

مباركةٌ هي الأمُ التي حملت بك. ففي الدنيا
هذا الشخصُ كان أكثر غضباً. لا أحدَ
يترحمُ على ذكراه، و ها هو ظلهُ في الوحل.

ما أكثرهم من هم على شاكلته، من عتاةُ الغضبِ
الذين سوفَ يأتون إلى بحيرة الوحلِ ها هنا
مخلّفين ورائهم لعنةً تلحقهم إلى يوم القيامة."

قلتُ: "سيدي، لسوفَ يتماشى مع رغباتي
أن أرى هذا البائسَ يُجرُ وسطَ الفضلاتِ
قبلَ أن نمضي تاركينَ هذا الوحلَ و تاركينه."

قالَ لي: "قبلَ أن تظهرَ الضفةُ الأخرى
عبرَ الضبابِ، سوفَ تُدرِكَ ما تسأله
هذه أمنية يجبُ أن تُحقّق."

و بعدَها بدقائق، رأيتُ تلكَ الروحَ الكريهة
مشوهةً ما بينَ زمرةِ العصاةِ المتسخّين
و هوَ ما أحمدُ ربي كلَ يومٍ من أجلِه.

"وراءَ فيليبو أرجينتي!" صرخوا بصوتٍ واحد
و الكلبُ الفلورنسي المجنون فرّ أمامَ صرخاتِهم
و عضّ نفسَهُ من الغضبِ، بينما اجتمعوا حولَه.









نقل من صاحبه..:









    رد مع اقتباس