عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-06-27, 18:19 رقم المشاركة : 1
الثغرالباسم
أستـــــاذ(ة) ذهبــــي
 
الصورة الرمزية الثغرالباسم

 

إحصائية العضو







الثغرالباسم غير متواجد حالياً


افتراضي ((فصاحة الأدباء القدماء))


يعتبر هذا الموضوع من الموضوعات التي استرعت اهتمام الكثير من الدارسين العرب المحدثين ، وقد وقع بينهم خلاف حوله ، ولعل أسباب الخلاف ما نجده من جهل بعضهم للفرق بين الفصاحة اللغوية والبيانية ، فكان بعض منهم يجري إحداهما على الأخرى فلا يجد مبررا للكثير من القضايا المتعلقة بهما ، وسنحول في هذا المقال إلقاء الضوء على كل من الفصاحتين ، كما سنبين منهج النحاة واللغويين في تحديدهم لرقعة الفصاحة اللغوية زمانا ومكانا ، وكذا توضيح السبب في ربطهم للفصاحة بالبداوة بعد زمان بدء التحريات الميدانية ، والرد على من زعم أن النحاة العرب قد ربطوا بين الفصاحة وبين الجنس العربي ربطا اعتباطيا لا مبرر له .
الفصاحة لغة :
اعتاد الدارسون ـ وخاصة العرب منهم ـ أن يحددوا المعنى اللغوي للمصطلحات، قبل المعنى الاصطلاحي ، وهذا للصلة الوثيقة الموجودة عادة بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية للكلمات .
فالفصاحة في اللغة : خلو الشيء مما يشوبه ، وأصله في اللبن ، يقال : فصُح اللبن ، إذا ذهب عنه اللبأ ، أي الرغوة التي تغطي سطحه )1( . قال نضلة السلمي)2( :
فَلَمْ يَخْشَوْا مَصَالَتَهُ عَلَيْهِمْ وَتَحْتَ الرِّغْوَةِ اللَّبَنُ الْفَصِيحُ
ومعنى خلوص الشيء مما يشوبه كونه واضحا بينا ، واستعير للدلالة على البين من القول. ذكر الأزهري عن الليث )3( : " وقد يجيء في الشعر وصف العجم بالفصيح ، يراد به بيان القول ، وإن كان بغير العربية ، كقول أبي النجم يصف حمارا :
أَعْجَمُ فِي آذَانِهَا فَصِيحاً
يعنى صوت الحمار أنه أعجم ، وهو في آذان الأُتُنِ فصيح بين " .
فالمعنى اللغوي للفصاحة من خلال هذه الأمثلة هو البيان والوضوح ، فكل ما كان بينا واضحا فهو فصيح ، ساء أكان كلاما أم غيره .
المعاني الاصطلاحية للفصاحة :
اضطرب مفهوم الفصاحة كثيرا لدى المحدثين من المهتمين بالدراسات اللغوية العربية، وهذا الاضطراب ناتج عن عدم تفريقهم بين الفصاحة بمعناها اللغوي وبين الفصاحة بمعناها البياني .
فالفصاحة اللغوية عند النحاة واللغويين العرب القدماء كانت تعني السليقة ، أي التكلم باللغة دون تعلم )1( . وهذا المفهوم يمكن استنتاجه من كلام الجاحظ بوساطة المقابلة التي أقامها بين عدة مفاهيم متقاربة ، يقول : " فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، جعل الفصاحة واللكنة ، والخطأ والصواب ، والإغلاق والإبانة ، والملحون والمعرب، كله سواء وكله بيانا " )2( .
فإذا قابلنا بين هذه المفاهيم على النحو الأتي :
فصاحة : لكنة
صواب : خطأ
إبانة : إغلاق
معرب : ملحون
نلاحظ أن الفصاحة تقابل الخطأ واللحن ، ومقابلتها للحن يفهم منه الخروج عن أوضاع العرب في كلامها ، لأن هذا هو تعريف اللحن ، ولا يطلق على عدم الفصاحة البيانية اللحن، بل يطلق عليه العيّ وما شابهه ، ومن هنا ندرك أن الكلام في هذا المضمار مستويان : مستوى السلامة اللغوية ، وهو خلوه من اللحن ، ومستوى السلامة البيانية ، وهو اختيار الكلام الجيد المؤثر في السامع .
ونفس الكلام نجده عند الفارابي حين يقول : " فتصير عبارته خارجة عن عبارة الأمة، ويكون خطأ ولحنا وغير فصيح " )3( ، فالخطأ واللحن يضادان الفصيح عنده ، كما رأينا عند الجاحظ .
والفصاحة والسليقة والملكة مصطلحات استعملها النحاة العرب القدماء ، وتطلق عندهم على معنى واحد في ميدان الدراسات اللغوية ، وتعني عندهم تعلم اللغة من المحيط في الصغر ودون معلم ، وهي مقابلة للحن الذي فشا على ألسنة المولدين . " ولم تزل العرب في جاهليتها وصدر من إسلامها تبرع في نطقها بالسجية ، وتتكلم على السليقة ، حتى فتحت المدائن … فوقع الخلل في الكلام ، وبدا اللحن على ألسنة العوام ")1(.
من خلال كلام الزبيدي هذا وكلام ابن منظور عن السليقة)2( ، ومن خلال تعريفنا للفصاحة اللغوية نفهم أن هذه المصطلحات كانت تعني عندهم معنى واحدا ، وإن كانت الفصاحة خاصة بالكلام ، والسليقة عامة في كل ما يقوم به الإنسان من أعمال محكمة ، سواء أكانت كلاما أم غيره .
أما الملكة عند ابن خلدون فهي الفصاحة كذلك ، أو قل بأن الفصاحة نوع من الملكة، إذ لا يشترط في الملكة أن تتعلم في الصغر دون معلم كالفصاحة ، لكن غايتهما واحدة ، وهي إجادة الكلام ، وإن كانت الملكة كالسليقة ليست خاصة بالكلام ، بل تشمل جميع أنواع المهارات ، فاللغة العربية عند العرب الفصحاء : " ملكة في ألسنتهم يأخذها الأخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا ")3( .
الفصاحة والجنس العربي :
يزعم بعض الدارسين المحدثين أن الفصاحة أو ما يسمونه بالسليقة كان لها عند القدماء ارتباط وثيق بالجنس العربي ، ولذا كانوا يعتقدون أن غير العربي لا يمكنه تعلم العربية ، ولو ولد ونشأ في بيئة عربية ، يقول في هذا المعنى إبراهيم أنيس ـ بعد أن عرف السليقة عند المحدثين ـ : " أما الأقدمون من علماء العربية فقد سيطرت عليهم فكرة أخرى، ورأوا أمر الكلام بالعربية يرتبط ارتباطا وثيقا بالجنس العربي ، ولذا ينكرون على الفارسي أو اليوناني إمكان إتقان هذه اللغة ، كما يتقنها أهلها من العرب … فكأنما تصور هؤلاء الرواة أن هناك أمرا سحريا يمتزج بدماء العرب ، ويختلط برماله وخيامهم ، وهو سر السليقة العربية، يورثه العرب لأطفالهم ، وترضعه الأمهات لأطفالهن في الألبان ، ولذا لم يتورع الرواة في الأخذ عن صبيان العرب ")4( . ولا غرابة أن يقول إبراهيم أنيس هذا القول بعد أن زعم بأن الإعراب عبارة عن قصة مفتعلة من طرف النحاة العرب ، وقد رددنا على هذا الرأي السخيف بردود داحضة في كتابنا " محاضرات في فقه اللغة " . ولولا أن بعضا من طلاب العلم عندنا ربما افتتنوا بهذه الأفكار الغريبة لما جشمنا أنفسنا عناء إيرادها والرد عليها .
أما عبد التواب رمضان فقد نهَج نهْج إبراهيم أنيس حين قال : " وليس في السليقة اللغوية لدى المحدثين ، شيء غامض ، كما كان علماء العربية القدماء يظنون ، حين ربطوا بينها وبين البداوة حينا ، أو الجنس العربي حينا آخر ")1(
هذا التقول والزعم الباطل نشأ بسبب تحديد العرب القدماء لمفهوم الفصاحة والفصحاء، ولكن الحقيقة أن رواة اللغة كانوا علميين في تحديدهم للفصاحة . وقد أكد علماء النفس المحدثين أن المهارات لا تدرك إلا قبل اكتمال نمو الدماغ ، وهذا ما اعتمده علماء اللغة، وهم ـ وإن لم يدركوه علميا ـ فقد أدركوه بالتجربة والملاحظة ، حيث رأوا أن الكبار من العجم لا يستطيعون إتقان العربية مهما طلت إقامتهم في بلاد العرب : " ألا ترى أن الزنجي إذا جلب كبيرا فإنه لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا ، ولو أقام في عليا تميم أو سفلى قيس، وبين عجز هوازن خمسينا عاما ")2( . فالجاحظ ـ كما تلاحظ ـ نص على الكبر، ومعنى هذا أنه إذا جلب صغيرا فإنه ينشأ عربي اللسان مثله مثل كل العرب ، وقد كان هذا موجودا كثيرا في بلاد العرب ، حيث كان الكثير منهم من غير العرب يجلبون صغارا ويباعون عبيدا، فكان الرواة يأخذون عنهم اللغة تماما كما يأخذون عن العرب .
هذه هي إذن نظرة الرواة العرب القدماء للفصاحة ، ولا توجد عندنا نصوص تبين أنهم كانوا يربطون بين الفصاحة وبين الجنس العربي إلا من الزاوية التي ذكرناها. جاء في اللسان : " رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتا ، وإن لم يكن فصيح … ورجل معرب إذا كان فصيحا ، وإن كان عجمي النسب ")3(.
وقد أفاض ابن خلدون في هذا الموضوع وبين أن ملكة اللسان تتعلم بالدربة والممارسة ، وليست طبعا ، ويمكن أن يجيد العربية الأعاجم كما أجادها العرب ، ويضرب لذلك أمثلة لعلماء أعاجم أجادوا العربية مثل سيبويه وأبي علي الفارسي والزمخشري)4(. بل ويرد ابن خلدون على من زعم أن العربية كانت طبعا في أهلها ، ويبين أن: " الملكات إذا استقرت ورسخت في محالّها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل . ولذا يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب بالطبع ، وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت ، فظهرت في بادئ الرأي كأنها جبلة وطبـع")5(.
لقد وصف ابن خلدون من يعتقد هذا الاعتقاد بأنه مغفل ، فهل نظن أن العلماء الأفذاذ مثل أبي عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه والأصمعي وابن جني وأبي علي الفارسي وغيرهم من أساطين النحو العربي يطلق عليهم وصف ابن خلدون ، أو أن ابن خلدون كان يقصدهم؟ حاش لله أن يكون ذلك ، وإنما كان ابن خلدون يقصد أناسا ممن لم يشموا رائحة هذا العلم فضلا أن يتقنوه ، ولكن حسب رأي إبراهيم أنيس وعبد التواب رمضان فإن هذا الوصف ينطبق على النحاة واللغويين العرب القدماء دون استثناء ، وهذا تقوُّل نربأ بألسنتنا أن تتفوه به، وبقلوبنا أن تعتقده .
وحين تطرق تمام حسان [1] إلى علاقة السليقة بالطبيعة فهم الملكة كما يفهمها علماء النفس على أنها أمر فطري فعد إبراهيم مصطفى من أنصار الطبع في السليقة اللغوية بسبب استخدامه لمصطلح الملكة ، وفاته أن ابن خلدون قد نص وأكد على أن الملكات ليست طبيعية وإنما هي مكتسبة ، وهذا الوهم ناتج عن عدم تفريقه بين الملكة التي هي مكتسبة، وبين القدرة التي هي فطرية [2] .
ويورد تمام حسان [3] نصوصا لعلماء عرب قدماء يزعم أنهم يقولون فيها بفكرة الطبع في السليقة اللغوية ، ويرى أن القائلين بالطبع كثرة ، فذكر منهم ابن جني الذي أتى بحكاية أبي حاتم السجستاني مع الأعرابي في قوله تعالى [4]: { طُوبَى لَهُمْ } [5] ، والتي قرأها الأعرابي: طيبى [6] ، وذكر قول الشاعر الكلبي :
كَمْ بَيْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتَالُوا لِمَنْطِقِهِمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَلَى إِعْرَابِهِمْ طُبِعُوا
وكذلك قول ابن فارس : " فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها " [7] .
أتى بكل هذه الشواهد لكي يدلل على أن النحاة العرب واللغويين كانوا يعتقدون أن السليقة أو الفصاحة أمر طبيعي لا مكتسب ، ولكن الذي يمكن ذكره في هذا المجال أن الطبع هنا لا يعني الفطرة التي هي عكس الاكتساب ، وإنما يعني العادة التي تصبح بعد المران كأنها طبيعة ، وهذا ما أكده ابن خلدون ـ كما رأينا من قبل ـ .
وكيف يمكن للعلماء العرب أن يقولوا بأن الفصاحة طبع عند العربي وهو يشاهدون من حولهم أعاجم قد صاروا فصحاء ، وعربا يلحنون في كلامهم ، وعلى هذا الأساس حددوا رقعة الفصاحة من الناحية الزمانية والمكانية ، فلو كانوا يعتقدون أن الفصاحة للعرب بالطبع لحددوها بالجنس العربي ، فكل من كان عربيا فهو فصيح ، ولو عاش وسط الأعاجم، ولكن تحديدهم لرقعة الفصاحة لم يكن على هذا الأساس ، بل أبعدوا قبائل كثيرة بحجة التأثر بغيرها من الأمم المحيطة بها .
ونلاحظ أن تمام حسان [8] يورد أحكاما على القدماء في هذه المسألة دون أن يأتي بشاهد واحد يثبت ما يدعيه ، فليس صحيحا أن اللغة العربية في دم العربي تظهر على لسانه، ولو ولد في بيئة أجنبية ، وليس مستساغا أن المرء إذا نشأ على الكلام بلغة بقي أمينا على تمثيل هذه اللغة . فكأن تمام حسان ينسب هذه الأفكار التي يرد عليها إلى النحاة العرب القدماء، ولكنهم منها براء .
أما كلمة الطبع في قول الشاعر فهي لا تعني الطبع في مقابل الاكتساب ، وإنما تعني الطبع الذي يقابل الصنعة والتكلف ، وهي فكرة ظهرت في الأدب العربي القديم ، وهذا داخل في إطار المشادات التي كانت تقوم بين الشعراء والنحاة ، فكان الشعراء يفخرون على النحاة بأنهم يتكلمون بالسليقة ، دون تكلف ولا صنعة ولا إطالة نظر وتعلم كالنحاة ، وهذا هو معنى قول الشاعر أيضا :
ولست نحويا يلوك لسانه ولكن سليقي أقول فأعرب
وهذا ما ذهب إليه ابن خلدون في تفسيره للطبع في هذا المقام حيث يقول : " هكذا تصير الألسن واللغات من جيل إلى جيل ، وتعلمها العجم والأطفال ، وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع ، أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم " [9].
وهناك قضية أخرى تتصل بهذا الموضوع ، وهو ما أثبته العلماء القدماء الذين شافهوا فصحاء العرب ، وهي أن العربي الفصيح ـ وخاصة الأعرابي ـ لا يطاوعه لسانه على النطق باللحن ، وذكر هؤلاء العلماء قصصا عديدة في هذا الشأن ، كقصة " ليس الطيب إلا المسك " التي أوردها الزبيدي عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي [10] . كما ذكر ابن خلدون أن صاحب الملكة لا يستطيع أن يحيد عنها : " ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذا السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ، ولا وافقه عليه لسانه ، لأنه لا يعتاده ، ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده " [11] .
قال بهذه الفكرة كل النحاة العرب القدماء ، لكن بعض الدراسين المحدثين أنكروا عليهم هذه المبالغة ـ في نظرهم ـ حول فصاحة العرب ، كما أنكروا عليهم الاستشهاد بأقوال الأمَة الوكعاء [12] لاعتقادهم أن هذه الأمَة لا يمكن أن تجيد اللغة الفصحى ، وهذا ناتج عن سوء فهم للفصحى بمفهومها قديما ، كما سنرى ـ إن شاء الله ـ . ويندهش تمام حسان من موقف ابن جني من فصاحة الأعرابي الذي لم يستطع قراءة " طوبى " فيقول : " فما هي تلك السليقة المدهشـة ؟ وأي نـوع من السحر هـي ؟ بل في أي قسم تقع من أقسام البطولات ؟ " [13] .
والحقيقة أنه لا دهشة ولا سحر من هذه السليقة ، ولماذا نندهش مما ذكره النحاة القدماء ونحن أنفسنا نشاهد مثله في زماننا هذا ، فالكثير من الناس ـ وخاصة أهل البادية ـ لا يستطيعون التحدث بغير لغتهم في القطر الواحد . فهناك أصحاب التل عندنا مثلا يقلبون الغين قافا ، فإذا ما قدموا إلى العاصمة أو إلى بلدة أخرى لا تفعل ذلك صعب عليهم تبديل عادتهم النطقية ، ولا يستطيعون ذلك إلا بعد مكثهم زمنا طويلا في البلدة الثانية ، وقد لا يتأتى لبعضهم البعد عن لغته مهما طال به الزمن ، ومهما تكررت المحاولة ، وقد قال لي صديق من الجلفة [14] أنه يحاول أن يلقن أمه النطق بالغين فتأبى النطق إلا بالقاف ، فإذا ألح عليها قالت له : إنني أنطق مثلك ، وهي لا تشعر ، فهل إذ كذبنا الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم نكذب الأحياء أيضا ؟ ! إن هذا لشيء عجيب . فهؤلاء الفصحاء في لغاتهم مثلهم كمثل الزنجي الذي ذكره الجاحظ ، والذي لا يستطيع إلا أن يجعل الجيم زايا ولو أقام في عليا تميم أو سفلى قيس وبين عجز هوازن خمسين عاما [15] .
فكذلك العرب الفصحاء ، والأعراب منه خاصة ، لأن : " سكان البرية في بيوت الشعر أو الصوف والخيام والأحسية من كل أمة أجفى وأبعد من أن يتركوا ما قد تمكن بالعادة فيهم " [16]. فمن خلال المشاهدة ومشافهة فصحاء الأعراب استنتج الفارابي هذه النظرية ، وهي صحيحة ، يؤكدها علم الاجتماع الحديث ، وكذا علم النفس اللغوي .
وتؤكد الدراسات الحديثة في علم البيولوجيا والنفس أن الملكات ترسخ في الصغر وقبل اكتمال نمو الدماغ ، ومتى اكتمل نموه صعب على الإنسان استبدالها بملكات أخرى من جنسها ، كما يصعب عليه اكتساب ملكات جديدة ، وقد تنبه إلى هذا ابن خلدون فقرر في مقدمته [17] بأن الإنسان إذا تعلم ملكة تخلف في الملكات التي تليها ، وهذا هو شأن الألسنة ، إذا سبقت إليها ملكة لسان ما صعب عليها تحصيل ملكات ألسنة أخرى [18] . وهذا هو السبب الذي جعل النحاة العرب القدماء يقصرون الفصاحة على العرب دون العجم الذين دخلوا الإسلام، لا لجنسهم العربي . بل أخذوا عن العبيد والإماء والكثير منه لم يكنوا عربا في النسب، بل كان أغلبهم من عبيد الحبشة وغيرهم .
وابن جني وغيره ممن أعجب بفصاحة العرب والأعراب خاصة ، نراهم يستبعدون الكثير منهم ، بل ويلحنونهم ، كما فعل ابن جني مع الأعرابي الذي أنشده شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيه : أشأؤها وأدأؤها ، فضعف فصاحته ، وترك الأخذ عنه [19] . فلو كان هؤلاء غير صادقين في إعجابهم بسليقة الأعراب لما أنكروا عليهم شيئا ، ولقالوا بأن العرب لا يخطئون أبدا ، ولكن الذي قالوه هو أن الفصحاء من العرب هم وحدهم الذين يجوز التعجب من فصاحتهم ، ولكن بجانبهم عرب وأعراب كثيرون أبعدوا من رقعة الفصاحة زمن التحريات ، ولم يشفع لهم كونهم عربا ولا أعرابا ، وكان على رأس من أبعد قبيلة قريش رغم اعترافهم بأنها كانت أفصح القبائل قبل الإسلام وقبل فساد لسانهم ، بسبب اختلاطهم بغير العرب ممن كانوا يقصدون مكة للحج والعمرة . فلماذا إذن نتهم هؤلاء بأنهم كانوا يبالغون في موقفهم من فصاحة من ذكروا ، ولماذا ترد رواياتهم وقد عرفوا بالأمانة ، بل وتوفر التواتر في هذه الروايات ، ولم يردها أحد من العلماء ، سواء أكانوا علماء لغة أم غيرهم ، فهل تجمع الأمة على شيء غير صحيح ، وقد قال فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ أُّمَّتِي لاَ تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلاَلَةٍ } [20] .
وفكرة السليقة ، أو ما سماه ابن خلدون بالملكة ، لم تكن واضحة عند جميع الدارسين العرب المحدثين ، فهذا محمد كامل حسين يقول : " ومن أعجب القواعد التي لا يمكن أن تكون سليقة إعراب "غير" فعليك أن تغير الجملة في ذهنك ، وأن تضع بدلا منها "إلا"، ثم تحدد إعراب ما بعد "إلا" وبذلك يتم لك إعراب "غير" ، بعد تفكير طويل " [21] .
لولا أن هذا الكلام قد كتب في كتاب يقرأه الناس وقد ينخدعون به لما جشمنا أنفسنا عناء الرد عليه لتهافته جدا جدا . أما الإجابة عنه فنقول بأن العربي الفصيح ذا السليقة اللغوية في كلمة "غير" وفي غيرها لم يكن يجري هذه العملية ، ولم يكن يعرف الإعراب ولا علاقة غير بإلاَّ ، إنما هذا الإعراب والعلاقات الموجودة بين الكلم مكتشف من كلامه هو، وليس الفصيح خاضعا لقواعد النحاة المستنبطة من كلامه . وهذا الخلط ناتج من عدم إدراك هذا الكاتب للفرق بين الفصاحة عند أولئك ، والتي كانت عندهم ترادف السليقة ، وبين الفصاحة عندنا اليوم ، التي لا تكتسب إلا بعد تمرين طويل ، ومعرفة قواعد اللغة ، بل إن تعلمنا للملكة اللغوية ـ كما نص على ذلك ابن خلدون ـ لا ينبغي أن يكون انطلاقا من القواعد، لأن ملكة اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم . وأنا أسأل محمد كامل حسن: هل أنت عندما تتكلم أو تكتب تشعر بقواعد اللغة التي تستعملها ؟ فكذلك كان القوم ، بل كانوا أكثر سليقة منك ومنا جميعا ، فلا ينكر عليهم أنهم يتكلمون بأعقد الأساليب اللغوية ثم هم لا يعرفون قواعدها ، إن مثل العربي الفصيح وغير العربي بالنسبة إلى العالم في اللغة كمثل الإنسان في جسمه ونفسه ، فهو مركب تركيبا جسميا ونفسيا عجيبا ، ولكنه لا يدرك ذلك من نفسه وجسمه، بل الذي يدرك ذلك هو عالم البيولوجيا وعالم النفس ، هو يتصرف على السليقة وهما يكتشفان علل تصرفه ، فكذلك الفصيح واللغوي .
الفصاحة والأعراب :
ارتبطت الفصاحة عند القدماء ارتباطا وثيقا بالأعراب وبالبادية ، حتى بدا للكثير من الدارسين المحدثين أن النحاة العرب كانوا يربطون الفصاحة بالأعراب لا لشيء إلا لأنهم أعراب، ويظهر هذا الارتباط في الكثير من كلامهم ، كقول الجاحظ : " ممن كان لا يلحن البتة كأن لسانه أعرابي فصيح ، أبو زيد النحوي وأبو سعيد المعلم " [22] . كما يظهر هذا في كلام ابن جني في الخصائص حين يقول : " وكان قد طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية ويبتعد عن الضعفة الحضرية " [23] ، ويظهر كذلك من قول الفارابي : " وبالجملة فإنه لم يؤخذ من حضري قط " ، وقوله : " ولا من حاضرة الحجاز " [24] . وقول الفارابي هذا أتى به في معرض حديثه عن تحديد الرواة لرقعة الفصاحة مكانا ، حيث أبعدوا كل القبائل الحضرية بما في ذلك قبائل الحجاز .
هذه شهادات قليلة من كثير تبين جليا اهتمام اللغويين القدماء بالفصاحة البدوية، فما هو السر في ذلك ؟ وهل كان القدماء مبالغين في ربط الفصاحة بالبداوة ـ كما ادعى بعض الدارسين المحدثين ـ ؟ [25] .
لقد أجاب عن هذا التساؤل اللغويون والنحاة أنفسهم ، حيث أجمعوا على أن الأعراب كانوا أفصح من الحضر ، ونعني هنا الفصاحة اللغوية التي سنحددها لاحقا ـ إن شاء الله ـ.
والروايات التي تنسب إلى الأعراب الفصاحة أكثر من أن تحصى ، وهي شهادات من طرف من شافه هؤلاء الأعراب ، وقارن فصاحتهم بفصاحة غيرهم ، وقد حكم الجاحظ على البادية بأنها معدن الفصاحة ، وهو ممن شافه فصحاء الأعراب وخبر لغتهم [26] ، كما روي عن الفراء قوله : " إلا أن تسمع شيئا من بدوي فصيح فتقوله " [27] .
وهناك جواب آخر للاستفسار عن سبب ربط الفصاحة بالبداوة نجده عند القدماء، يقول ابن جني في الخصائص تحت عنوان : " باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر " : " علة ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم أن أهل قرية باقون على فصاحتهم ، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم ، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر . وكذلك لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر … لوجب رفض لغتهم " [28] .
كما أن الفارابي أجاب إجابة واضحة عن هذا التساؤل عند تعرضه لسبب تحديد رقعة الفصاحة مكانا ، فذكر أن : " سكان البرية في بيوت الشعر والصوف والخيام والأحسية من كل أمة أجفى وأبعد من أن يتركوا ما قد تمكن بالعادة فيهم ، وأحرى أن يحصنوا نفوسهم عن تخيل حروف سائر الأمم وألفاظهم ، وألسنتهم على النطق بها ، وأحرى ألا يخالطوا غيرهم من الأمم للتوحش والجفاء الذي فيهم . وكان سكان المدن والقرى وبيوت المدر منهم أطبع، وكانت نفوسهم أشد انقيادا لتفهم ما لم يتعودوه ، ولتصوره وتخيله ، وألسنتهم للنطق بما لم يتعودوا ، كان الأفضل أن تؤخذ لغات الأمة عن سكان البراري منهم " [29] .
فليس في الأمر سر كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين المحدثين ، إنما هي أمور علمية معللة تعليلا واضحا لا مجال للطعن فيه . ولكن السر يكمن في هذا التهجم من طرف هؤلاء الدارسين المحدثين على النحاة واللغويين القدماء بدون دليل ولا حجة ، هل هو رفض القديم بكل ما فيه ؟ أم لحاجة في أنفسهم ؟ أم جريا وراء بعض المستشرقين غير النزهاء في موقفهم من التراث العربي ؟ أم أن كل ذلك وارد ؟ وعلى كل حال فالسر ليس في عمل علمائنا الأوائل بل في موقف هؤلاء منهم .
والشيء الذي لم يستطع أن يهضمه هؤلاء الدارسين هو أنه لا يمكن أن تكون البادية أفصح من الحاضرة ، " فالقول بأن لغة البدو أفصح من غيرها من لهجات الحاضرة، ينقصه البرهان ، ولا يثبت أمام الواقع " [30] . ولكن علم الدين نسي وهو يطلق هذا الحكم أن كلامه هو الذي يحتاج إلى دليل ، ولا يثبت أمام الواقع الذي شاهده أولئك العلماء وأجمعوا عليه، وغاب هو وأمثاله عنه ، ثم رجموا بالغيب في هذه المسألة ، كما رجموا في مسالة ربط الفصاحة بالجنس العربي .
والغريب أن علم الدين يواصل حديثه بقوله : " ومقياس الفصاحة ـ كما أراه ـ لا يتصل بالبداوة أو الحضارة ، لأننا رأينا بدوا فسدت لهجاتهم ، وإنما يجب أن يكون المقياس هو الوثوق من سلامة لغة المحتج به ، بدويا كان أم حضريا " [31] . فكأنه لم يقرأ مطلقا ما قاله القدماء في هذا الشأن ، لأن هذا الرأي هو نفسه رأي القدماء في الفصاحة ، وقد رأينا كيف نص ابن جني على هذا في الخصائص [32] ، والفارابي في الحروف [33] . فربط الفصاحة بالبداوة لم يكن اعتباطا ، ولكن المقياس الذي وضعه العلماء كان لا ينطبق بعد القرن الأول للهجرة إلا على البدو فاقتصروا على الأخذ منهم دون الحضر .
وهناك من فهم الفصاحة التي ينسبها اللغويون إلى الأعراب فهما بيانا ، فاندهش كيف يمكن للأمَة الوكعاء أن تميز بين المعاني الدقيقة والأساليب الراقية [34] . وادعى أن كلام البدو لا يمكن أن يزيد على خمسمائة كلمة ، فكيف يكون حجة في كل كلام العرب ؟! وللإجابة عن هذا الوهم نقول بأن كلام العرب جميعا كان بدويا ، حتى بعض الحواضر منه كمكة والمدينة والطائف لم تكن الحياة فيها بعيدة عن حياة البادية ، ولم تكن فيها منتجات حضرية تختلف كثيرا عن منتجات البادية ، إنما شبه جزيرة العرب كلها كانت متقاربة من حيث التحضر، ومن هنا فاللسان العربي كان واحدا عند البدو والحضر في الجاهلية وصدر الإسلام .
أما قولهم بأن البدوي لم يكن يعرف أكثر من خمسمائة كلمة ، فهو كلام لا يقف أمام الواقع الذي حدثنا به رواة اللغة المشافهين لهؤلاء الأعراب . فهل كان هؤلاء الرواة يختلقون اللغة ثم ينسبونها إلى الأعراب ؟ وهل يعقل أن يجمع كل الرواة على ذلك ؟ مع ما يروى عنهم من الورع والأمانة العلمية والتحرج الشديد في ا






    رد مع اقتباس