الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > منتديات الثقافة والآداب والعلوم > منتدى الثقافة والفنون والعلوم الإنسانية > الفلسفة العامة والفكر الإسلامي



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2014-10-04, 23:39 رقم المشاركة : 11
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.


الحقيقة والشريعة عند ابن رشد بقلم د. أحمد برقاوي



ليس ابن رشد بغائب عنا هذه الأيام، بل قل إنه أكثر حضوراً في آننا من زمانه.

وآية ذلك أن قضية العقل والنقل أو الحقيقة والشريعة أو النص والتأويل قد عادت للظهور ولكن في حقلٍ أوسع من ذلك الذي تحركت به قديماً. والمندرجون في المعركة هم أكثر عدداً من ذي قبل، والبعد السياسي للقضية يضفي عليها صبغة ايديولوجية عملية. وأدوات البحث فيها قد تعددت واغتنت بمنجزات مناهج البحث في العلوم الإنسانية.

أجل عشرة قرون تفصلنا عن ابن رشد. عشرة قرون لم تحل دون عودة دلالة "فصل المقال" إلى الظهور مرة أخرى.

وإذا كنا ننشغل بمشكلة العلاقة بين الحقيقة والشريعة الآن فهذا ليس من قبيل الترف الفلسفي. أو من قبيل النزوع الأكاديمي لدراسة تاريخ الفلسفة، بل هو انشغال بمشكلة راهنة جداً وهذا لعمري هو الذي يعطي للنظر في ابن رشد المعنى.

وإذا كان البعض من الدارسين لابن رشد قد انشغل بميتافيزيقاه والبحث فيها عن نسق فلسفي مادي ليعزز فكرة مسبقة لديه حول العلاقة بين المادة والوعي، فإن عدم الوقوف عند ما هو أصيل في فلسفة ابن رشد - وأقصد قضية العقل والنقل- قد حال بين الفكر العربي وبين النظر في المشكلات المعيشة وإغنائها.

وإن ما نطمح إليه في مقالنا المتواضع هذا هو استعادة التجربة الرشدية على ما هي عليه، تجربة حرية العقل والإنسان في التجول في عالم النص والحقيقة. دون أية أفكارٍ مسبقة نسعى لتفصيل ابن رشد على قدها.

فأين تكمن أصالة التجربة الرشدية.

عاش ابن رشد محنة الفيلسوف العقلي وكتب أبو الحسين من وحي المحنة في حق ابن رشد قائلاً:

لم تلزم الرشد يا بن رشدٍ لما علا في الزمان جدك

وكنت في الدين ذا رياءٍ ما هكذا كان فيه جدك.(1)

ما الذي كان يقصده أبو الحسين من أن ابن رشد لم يلزم "الرشد"؟ وأنه كان ذا رياءٍ في الدين؟

إن عدم التزام ابن رشد بالرشد يعني مخالفته للشريعة ورياء ابن رشد بالدين لا يعني سوى التحايل على النص للدخول عبره إلى الفلسفة.

ولست هنا ملزماً بالدفاع عن ابن رشد ولا بتأكيد التزامه بالدين.

بل إن ما رآه أبو الحسين غياباً للرشد ورياءً في الدين هو بالذات ما نراه انحيازاً للفلسفة وللحكمة والعقل عند ابن رشد.

فمن هو ابن رشد؟

ولد ابن رشد في قرطبة سنة 1126م، أخذ العلوم الفقهية عن أبي قاسم وأبي مروان بن مسرة وأبي بكر بن سمحون وأبي جعفر بن عبد العزيز. وكان هؤلاء أهم فقهاء عصرهم. وتتلمذ بالطب على يد أبي جعفر هارون. وبالفلسفة على يد ابن باجة.

وأقام صداقة مع ابن طفيل وابن زهر. وحين ألف كتاب "الكليات في الطب" طلب من ابن زهر وضع كتاب في الجزئيات ليكون مكملاً لكتابه.

إذاً كان ابن رشد على غرار عظماء عصره موسوعياً فهو فقيه وقاضٍ. وطبيب، وفيلسوف.

وكان من عادة حكام ذلك العصر أن يقربوا هذا الصنف من الناس حيناً ويغضبوا عليهم حيناً آخر.

وفي عصر ابن رشد كان الحَكم الأموي خليفة في الأندلس وقيل عنه: إنه كان محباً للعلم. أرسل الرسل إلى بغداد ودمشق والقاهرة، ليجمعوا الكتب، بما في ذلك كتب الفلسفة. والتي كما قيل أيضاً أن الحَكم كان نصيرها. فقرب منه الفلاسفة.

يموت الحكم ويستولي الحاجب المنصور على السلطة، وهو الذي رأى ضرورة الاعتماد على رجال الدين فكان أن أحرق كتب الفلسفة والفلك واضطهد الفلاسفة.

ثم جاء الخليفة عبد المؤمن فأعاد الاعتبار للعلم وللفلسفة فقرب منه ابن زهر وابن باجة وابن طفيل وابن رشد.

ويتذكر ابن رشد قائلاً: لما دخلت على أمير المؤمين وجدت ابن طفيل في مجلسه. فابتدأ ابن طفيل يذكر شرف أسرتي وقدم عهدها واثنى علي ثناءً لا أستحقه. أما الأمير فإنه التفت إلي... وافتتح الحديث بهذا السؤال: ماذا يعتقد الفلاسفة في الكون؟ أهو قديم أزلي أم محْدث؟ فداخلني الوجل عند هذا السؤال، وأخذت التمس عذراً لأتخلص من الجواب فأنكرت أني اشتغلت بالفلسفة، وما كنت عالماً أن ابن طفيل اتفق مع الأمير على تجربتي. فلما رأى الأمير اضطرابي التفت إلى ابن طفيل وصار يباحثه في الموضوع، فروى كل ما قاله أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الفلاسفة، وأردفها بردود المتكلمين عليها. فأطمأنت نفسي حينئذٍ، وعجبت من ذكاء الأمير، وقوة ذاكراته التي يندر وجودها عند العلماء المنقطعين إلى مثل هذه الدروس. وهكذا تجرأت على الكلام ليرى الأمير مبلغ علمي في هذا الموضوع.

تدل هذه الحادثة على أن الاشتغال بالفلسفة أنذاك كان أمراً مرذولاً يخشى إظهاره الفيلسوف حتى أمام أمير مولع بالعلم والفلسفة ويقرب المشتغلين بها إلى بلاطه.

ويبدو أن الفقهاء كانوا من السيطرة بحيث أنهم قد خلقوا الريبة بالفلسفة وأوقعوا الشبهة بالمشتغلين بها وأنهم زنادقة أو ملاحده أو بعيدين عن جادة الشريعة وكان من السهل عليهم أن يوغروا صدر الأمير والعامة على السواء ضد الفلاسفة.

وإلا لِمَ نجح الفقهاء في إقناع الخليفة يعقوب المنصور بمعاقبة ابن رشد ونفيه إلى أليسانه.

وليس النص المنشور الذي كتبه عن المنصور كاتبه أبو عبد الله بن عياش إلا دليلاً على ذلك فلنورده للقارئ ليعيش في مناخ ذلك الزمان.

يقول المنشور: "وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، أقر لهم عوامهم بشفوف عليهم في الإفهام فخلدوا في العالم صحفاً مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق. بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين. يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها. وهم يتشعبون في القضية فرقاً. ويسيرون فيها شواكل وطرفاً. ذلكم بأن الله خلقهم للنار. وبعمل أهل النار يعملون ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. ألا ساء ما يزرون. ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين أنس يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يسفرون.

يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. فكانوا عليها اضر من أهل الكتاب. وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب. لأن الكتابي يجهد في ضلال. ويجد في كلال وهؤلاء جهدهم التعطيل وقصاراهم التمويه والتخييل. دبت عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان إلا أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد منى لهم على شدة حروبهم، وأعفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم. وما أُملي لهم إلا ليزدادوا إثماً.

وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً وما زلنا - وصل الله كرامتكم- نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم من الله سبحانه ويدنيهم. فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم وقف لبعضعهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لُبس منها الإيمان بالظلم وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم. مزلة للإقدام وهم يدب في باطن الإسلام. أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة. فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونها بباطنهم وغيهم وبهتانهم. فلما وقفنا منهم على ما هو قذىً في جفن الدين ونكتة سوداء في صفحة النور المبين،.نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصى السفاء من الغواة. وابغضناهم في الله كما أنا نحب المؤمنين في الله. وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين وعبادك هم الموصوفون بالمتقين وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك فباعد أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم. ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم والإيقاظ بحده من غفلتهم ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهوان ثم طُردوا عن رحمة الله لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وأنهم لكاذبون.

فاحذرهم وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من السموم السارية في الإبدان. ومن عثر على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار بها يعذب أربابه. وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه.ومتى عثر منهم على مجدٍ في غلوائه عمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف ولا تركنوا... إلى الدين ظلموا فتمسكم النار. وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (**). أولئك الذين أحبطت أعمالهم، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلى النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون. والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم. أنه منعم كريم."(1)

إن منشوراً كهذا يلخص إلى حدٍ كبير موقف الفقهاء من الفلسفة والفلاسفة، في عصر ابن رشد.

فالفلسفة وهم تنطلي على العامة وهذه خطورتها. ثم إنها تخلق الشك، فيضيع معيار الحقيقة التي هي الشرع. وبالتالي هي مبحث بعيد عن الشريعة ومناقض لها. مبحث يدعي العقل ويستخدم البرهان. وهو رغم ذلك يسعى للتمويه والتخييل، وخطر الفلاسفة أكبر من خطر أصحاب الديانات الأخرى لأن هدفهم التعطيل.

ويرى الفقيه أن الفلاسفة يدعون ظاهر الإيمان ولكن باطن معرفتهم هو الإعراض عن الإيمان، إنهم ببساطة ملحدون حقت عليهم العقوبة بكل أشكالها.

في هذا المناخ كان يتفلسف ابن رشد. إذاً كان لا بد له ولغيره من الفلاسفة أن يواجهوا مناخاً كهذا. عن طريق شرعنة النظر العقلي في الوجود، وحق العقل في الوصول إلى الحقيقة. وهذا لا يتأتى إلا إذا دللوا على غياب التناقض بين النظر العقلي والشريعة ذاتها، استناداً إلى النص الشرعي الأساسي ألا وهو القرآن فكان كتاب "فصل المقال"

يقول ابن رشد: "فإن الغرض من هذا القول - ويقصد فصل المقال- أن نفحص على جهة النظر الشرعي: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح في الشرع أم محظور أم مأمور به؟ إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب. فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليست شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فبين أن ما يدل عليه هذا الإسم إما واجب بالشرع أو مندوب إليه".(2)

إذاً النظر في المصنوعات ومعرفتها لتكون المعرفة بالصانع اتم واجب على الشرع ومندوب إليه. فيكون أن المصنوعات تدل على الصانع - الله. وهدف الفلسفة أن تكون معرفتنا بالله معرفة عقلية.

غير أن هناك سؤالاً لا بد أن يطرحه صاحب الشرع أو الفقيه.

إذا كان الفيلسوف يؤمن بوجود الصانع الذي هو الخالق للمصنوعات. وإذا كان الخالق قد بعث الرسل والكتب لهداية الناس إلى عبادته. وإذا كان هناك وحي هو الواسطة بين الله والرسول فما هو مبرر الفيلسوف للوصول إلى ما وصل إليه الناس عبر الوحي ذاته؟

ولماذا يجب أن يخضع المصنوع والصانع للنظر العقلي كي يدلل على أمرٍ أخذ الله ذاته على عاتقه التدليل عليه. أي التدليل على ذاته وعلى مصنوعاته؟

قد يقول الفيلسوف أنه لا يشك بوجود الصانع كما لايشك بأنه صانع الموجودات. ولكن المعرفة ستكون أتم إذا وصل عقلياً لماهية الصانع وعلاقته بالموجودات.

ولكن لماذا تكون المعرفة بالعقل أتم من المعرفة عن طريق الوحي؟ إننا لا نجد جواباً مباشراً على هذا السؤال من قبل الفيلسوف لكنه سيجيب بطريقة أخرى، تقوم على أن الصانع ذاته قد دعا إلى ضرورة النظر العقلي وهذا وارد في النص القرآني.

هنا يورد ابن رشد عدداً من آيات القرآن التي تحض على النظر العقلي: ك "فاعتبروا يا أولي الأبصار" "أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء"، "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت"، ويتفكرون في خلق السموات والأرض" فالنص إذاً هو الذي يدعو إلى ضرورة النظر العقلي. ولا ندري طبعاً لماذا.

على أية حال وبالرغم مما يمكن أن يقال بهذا الصدد من اخفاء الفيلسوف رغبته الذاتية في النظر العقلي عبر آيات من النص إنما أراد أن ينجب القناعة لدى الفقيه بأنه في نظره العقلي يظل داخل الشرع ذاته. وأن يتقى شر الشبهة - التي هي لا محال واقعة عليه- شبهة الانحياز عن جادة الشريعة.

وبعد أن قرر فيلسوف قرطبة أن النظر في الموجودات واجب بالشرع، ووجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي وبما أن القياس هو استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه، فواجب أن نجعل نظرنا بالقياس العقلي.

والقياس العقلي هو البرهان فيجب أن نعلم أنواع البراهين وشروطها وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي(3).وهنا يرد ابن رشد على من يقول إن النظر في القياس العقلي بدعة لأنه لم يكن في الصدر الأول فيقول:

إن القياس الفقهي وأنواعه استنبط بعد الصدر الأول. فلو كان القياس العقلي بدعة لأنه لم يكن في الصدر الأول لوجب أن يكون القياس الفقهي هو الآخر بدعة لأنه هو الآخر لم يكن في الصدر الأول. "فيجب أن نعتقد في النظر في القياس العقلي"(4)

ورداً من ابن رشد على قائلٍ قد يقول إنما المنطق أو البرهان أو القياس هي من ملة الغير يكتب ابن رشد قائلاً:

"وإذا تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس العقلي وأنواعه. كما يجب النظر في القياس الفقهي، فبين إنه كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص القياس العقلي وأنواعه إنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه وأنه يستعين في ذلك.المتأخر بالمتقدم، حتى تكتمل المعرفة به. فإنه عسير أو غير ممكن أن يقف واحد" من الناس من تلقائه، وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من ذلك... وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك، فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا ذلك وسواء أكان الغير مشاركاً لنا أم غير مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، وإذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام"

إن كونية المعرفة غير مرتبطة بالملة "المقصود بذلك حصراً أن لا ضير مما أنجزه اليونان في المنطق (البرهان والقياس). وبالتالي لا يمكن الحكم على المعرفة استناداً إلى قسمة الناس على أساس الملة. بل استناداً إلى الحق ذاته.

ثم أن العلة ليست في الحكمة أو الفلسفة بما هي عمومية، بل في طريقة استخدام الفلسفة ذاتها.

وإذا كان البعض قد أساء استخدام الحكمة فلا ينتج من ذلك رفضها. ولهذا يقول ابن رشد "فمثل الذي منع النظر في كتب الحكمة (الفلسفة) من هو أهل لها، ومن أجل أن قوماً من ارذال الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها مثل من منع العطِش من شرب الماء البارد العذب حتى مات لأن قوماً شرقوا به فماتوا، فإن الموت بالشرق امر عارض وعن العطش ذاتي ضروري.(5)

وإذا كان الشرع حقاً وداعياً إلى النظر المؤدي إلى الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة الشرع. فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.(6)

الحق لا يضاد الحق. هذه النتيجة التي وصل إليها ابن رشد إنما أراد منها أن يوصل الشرع إلى لحظة القبول بالفلسفة.

فالفيلسوف اعترف بأن الشريعة طريق للحق وأن الفلسفة طريق آخر إليها لكن إعتراف الفيلسوف لا يملك أهمية بالنسبة إلى الفقيه، بلى الأهمية أن يعترف الفقيه بطريقة الفيلسوف.

طريق الفيلسوف هو البرهان وأنما تظهر المشكلة لا بموافقة البرهان بما نطقت به الشريعة، فإن خالف البرهان هذا النطق، وجب تأويل ما نطقت الشريعة به ليغدو موافقاً للبرهان.

هاقد وصل الفيلسوف إلى فكرة التأويل. ومعنى التأويل عند ابن رشد "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه، أو سببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُدّدت في أصناف الكلام المجازي"(7)

ولما كان المسلمون قد أجمعوا على حمل أشياء في الشرع على ظاهرها وأخرى على تأويلها فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله.

يجيب ابن رشد قائلاً: لو ثبت الإجماع بطريق يقيني لم يصح وإن كان الإجماع فيها ظنياً فقد يصح.

ولكن ما هو الطريق اليقيني! إنه البرهان. وتأويل ما أجمع على ظاهره أو ظاهر ما أجمع على تأويله لا يقود إلى الكفر. فلا "يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل"(8) وما القول في الفلاسفة كالفارابي وابن سينا؟. وقد كان الغزالي قد قطع بتكفيرهما في كتابه "التهافت"؟

يقوم ابن رشد هنا بتأويل (والراسخون في العلم) فالراسخون بالعلم يعلمون التأويل، التأويل الذي يقود إلى الإيمان، والإيمان عن طريق البرهان. "وإذا كان البرهان، فلا يكون إلا على العلم بالتأويل"(9) "(10) "وإذا كان ذلك كذلك فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات التي حض الله العلماء بها إجماع مستفيض.(11)

ترى إذا لم يكن هناك إجماع مستفيض، فهل على العامة أن تعرف تأويل الراسخين في العلم الفلاسفة،؟ يميز ابن رشد ثلاثة أصناف من الناس: الخطابيون، وهم العامة من الناس أو غالب الجمهور. وهم ليسوا أهلاً للتأويل، وصنف جدلي بالطبع وبالعادة وهم جمهور من الفقهاء وصنف البرهانيين، وهم الفلاسفة بالطبع والصناعة وهم أهل التأويل وأهل البرهان يجب ألا يصرحوا بتأويلهم للعامة أي لأهل الخطاب، إذ أنهم لا سبيل عندهم لفهمه ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها - وخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة- أفضى ذلك بالمصرّح له والمصّرح إلى الكفر.(12) والسبب في ذلك أن التأول إنما يقصد إلى إبطال الظاهر وإثبات المؤول فإذا أبطل الظاهر عند من هو أهل الظاهر ولم يثبت المؤول عنده أداه ذلك إلى الكفر إن كان في أصول الشريعة. "فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور ولا تثبت في الكتب الخطبية أو الجدلية. (13) والتأويلات عند ابن رشد نوعان صحيحة وفاسدة. والتأويلات سواء أكانت صحيحة أم فاسدة ليس يجب أن تثبت في الكتب الجمهورية، أما التأويل الصحيح فهي الأمانة التي حُملّها الإنسان فأبى أن يحملها. والتأويلات الفاسدة هي الظنية والتصريح بها للجميع أنتج فرق الإسلام حتى كفَّر بعضهم بعضاً وبدع بعضعهم بعضاً(14) ومن هذه الفرق المعتزلة والأشاعرة، وقد صرحت هاتان الشيعتان بتأويلاتها - وخاصة الفاسدة منها- للجمهور. فضلاً عن ذلك فإن الطرق التي سلكها المعتزلة والأشاعرة في إثبات تأويلاتهم ليس فيها مع الجمهور ولا مع الخواص. وأما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر. وأما على الخواص فلكونها - إذا تؤملت- وجدت ناقصة من شرائط البرهان.(15)

إذاً لم يكن ابن رشد معنياً بتوسيع دائرة الفلسفة ليطلع عليها العامة. وآية ذلك أن الفيلسوف إنسان متميز بالطبع والصناعة. والمقصود هنا بالطبع أن الفيلسوف متميز كإنسان بالأصل وذو ملكات أكبر بكثير من ملكات الإنسان العادي. ويمكن القول إن ذو ذكاء فطري متفوق على غيره من الناس العاديين. وأما المقصود بالصناعة. فإن الفيلسوف صاحب هذه الملكة الفطرية قد اكتسب المعرفة الفلسفية والبرهانية عن طريق التعليم فصار متخصصاً بها وقادراً على استخدامها الإستخدام الصحيح.

ولهذا فإن مطعن الجدليين الأساسي أنهم أوّلوا النص دون استخدامٍ صحيحٍ. فلا هم أقنعوا العوام ولا هم أقنعوا الخواص. وخطرهم على العوام أكثر لأن العوام غير قادرين على التمييز بين الصحيح والفاسد.

وقد عاد ابن رشد في كتاب "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبهة والزيف والبدع المضلة" إلى عقائد علم الكلام والصوفية ناقداً على نحوٍ صارخ تأويلات الكلاميين والصوفية.

كتب ابن رشد قائلاً" "وقلنا هناك - ويقصد كتاب فصل المقال- أ.ب"- أن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول وإن الظاهر منها فرض الجمهور وأن المؤول هو فرض العلماء. وأما الجمهور ففرضهم فيه حملهم على ظاهره وترك تأويله، وأنه لا يحل للعلماء أن ينصحوا بتاويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها، ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع (ص) بحسب الاستطاعة.

فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة وحتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة. كل واحد منهم يرى أنه أهل الشريعة الأولى. وإن من خالفه إمّا مبتدع وإمّا كافر مستباح الذمة والمال. وهذا كله عدول عن مقصد الشارع. وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة.

وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربع: الطائفة التي تسمى بالأشعرية، وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة. والتي تسمى بالمعتزلة. والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى بالحشوية.

وإذا تُؤمل جميعها وتُؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلّها أقاويل وتأويلات..."(16)

كنا قد رأينا أن ابن رشد يأخذ على علم الكلام والصوفية فساد تأويلهم بسبب فساد آلتهم (البرهان). ويمكن أن نضيف سبباً آخر مشتق من منطق كلام ابن رشد ذاته. ألا وهو وحدة الأمة عبر وحدة الشريعة. فالأمة هي الأكثرية - أي هي العامة الخطابيون. وهؤلاء ظاهريون في الغالب. وبالتالي فوحدة الأمة تتعرض للتفتت في التأويلات الجدلية التي تقسم الملة الواحدة إلى شيع خاصة إذا ما عرضت هذه التأويلات إليها.

أما التأويل البرهاني فلما كان وقفاً على الخاصة ولا قبل للعامة في فهمه فإنه يظل محصوراً داخل فئة محددة وخاصة أنها تأويلات لن يطلع عليها الجمهور.

هذه من جهة أما جهة ثانية فإن ابن رشد يريد أن يحصر مهمة التأويل في الراسخين في العلم وحدهم فهم القادرون عليه بسبب تمكنهم من صناعة الفلسفة. وهم القادرون على نزع التناقض بين الشريعة والفلسفة أو بين العقل والنقل وبعد نقد ابن رشد للطوائف الأربع (في الكشف عن مناهج الأدلة. ينظر فيما يجوز من التأويل في الشريعة وما لا يجوز وما جاز منه فلمن يجوز(17)

فيقول: إن المعاني الموجودة في الشرع توجد على خمسة أصناف، وذلك أنها تنقسم أولاً إلى صنفين: صنف غير منقسم، وينقسم الآخر منها إلى أربعة أصناف.

فالصنف الأول غير المنقسم هو أن يكون المعنى الذي صُرح به هو عين المعنى الموجود بنفسه. وهذا تأويله خطأ. أما الصنف الثاني فهو ألاّ يكون المعنى المصرح به في الشرع هو المعنى الموجود وإنما أخذ بدله على جهة التمثيل. وهذا الصنف هو القابل للتأويل. وينقسم بدوره إلى أربعة أقسام: الأول: أن يكون المعنى الذي صرح بمثاله لا يُعلم وجوده إلا بمقاييس بعيدة مركبة تتعلم في زمان طويل وصنائع جمة. وتأويل هذا القسم خاص في الراسخين في العلم ولا يجوز التصريح به لغير الراسخين.

الثاني: فالمعنى يصرح به أنه مثال ولماذا هو مثال. فتأويله هو المقصود منه والتصريح به واجب. وهو يعلم بعلم قريب منه.

الثالث: فيعلم بعلم قريب أنه مثال لشيء ويعلم لماذا هو مثال بعلم بعيد وهذا لا يتأوله إلا الخواص والعلماء.

والرابع: وهو المقابل لهذا وهو أن يكون كونه مثالاً معلوماً بعلم بعيد وإلا أنه إذا سُلّم أنه مثال ظهر عن قريب لماذا هو مثال ففي تأويل هذا أيضاً نظر.(18) إلا أن هذين الصنفين (الصنف الأول والصنف الثاني) متى أبيح التأويل فيهما تولدت منها اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة. وربما فشت فانكرها الجمهور.

وهذا هو الذي عرض للصوفية ولمن سلك من العلماء هذا المسلك. ولما تسلط على التأويل في هذه الشريعة من لم تتميز له هذه المواضع، ولا تميّز له الصنف من الناس الذين لا يجوز التأويل في حقهم اضطرب الأمر فيها، وحدث فيهم فرق متباينة يكفر بعضهم بعضاً.(19)

ترى لماذا يريد ابن رشد أن يحتكر التأويل أو أن يوقفه على الفيلسوف فقط، ألانه حقاً وحده، أو الفيلسوف وحده القادر على التأويل؟ وهل الفيلسوف وحده الراسخ في العلم يبدو لي أن تحديد المشكلة التي واجهت ابن رشد ليس التأويل. وليس التوفيق بين الحقيقة والشريعة بل كما قلنا نزع التناقض بينهما.

فشتان ما بين التوفيق ونزع التناقض. التوفيق إيجاد المشترك بين الحقيقة والشريعة. ونزع التناقض يعني استقلال كلٌ من الحقيقة والشريعة، وعدم الخلط بينهما. فالمشكلة التي واجهت الكلامين والمتصوفة هي التوفيق بالذات فظلوا في حقل اللاهوت الإسلامي. وبالتالي فلا هم قدموا الشريعة كما هي ولا هم انفصلوا عنها بعلم مستقل.

أما الفيلسوف فإنه ينشد الحقيقة والحقيقة فقط.

هنا يصير التأويل في خدمة الحقيقة وليس في خدمة الشريعة. فالتأويل اللاهوتي يؤدي إلى التشيع، أما التأويل الفلسفي بما هو خاص بالفلاسفة. ولا يصرح به للجمهور، فإنه يبقي على استقلال الشريعة كما يحافظ على استقلال الفلسفة، التي لن تصير معتقداً للعامة.

ابن رشد في رده على الغزالي الذي اتهم الفلاسفة بأنهم "انكروا وقوع إبراهيم عليه السلام في النار، مع عدم الاحتراق وبقاء النار ناراً وزعموا أن ذلك لايمكن إلا بسلب الحرارة عن النار، وذلك يخرجها عن كونها ناراً..

يقول: "وأما ما نسبه من الاعتراض على معجزة إبراهيم فشيء لم يقله إلا الزنادقة، فإن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدل في مبادئ الشريعة. وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد.

ذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ولا يعرض لها بنفي ولا بإبطال كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك.. والذي يجب أن يقال فيها: إن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية فلا بد من أن يعترف بها، مع جهل أسبابها. لذلك لا نجد أحداً من القدماء تكلم في المعجزات مع انتشارها وظهورها في العالم ولأنها مبادئ تثبيت الشرائع والشرائع مبادئ الفضائل...

فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلاً بإطلاق. فإذا تمادى به الزمان والسعادة إلى أن يكون من الراسخين في العلم فعرض له تأويل مبدأ من مبادئها فيجب عليه ألاّ يصرح بذلك التأويل، وأن يقول فيه كما قال الله سبحانه (والراسخون في العلم يقولون آمناً به كل من عند ربنا) هذه هي حدود الشرائع، وحدود العلماء"(20)

يقوم النص السابق على فكرة أساسية ألا وهي أن هناك حدوداً واختلافاً بين الصناعتين الشريعة والفلسفة فالفلسفة لا تنشغل بقضايا الشريعة لأن الشريعة صناعة مستقلة بذاتها وغايتها مستقلة عن غاية الفلسفة وإن حصل وتناول الفيلسوف الشريعة فعليه احترام المعتقد الديني.

الشريعة إيمان والفلسفة عقل، والشريعة تحتاج إلى المعجزة لتثبت مبادئها، الفلسفة تحتاج إلى البرهان. هنا يدرك ابن رشد وظيفة المعجزة فهو لا ينفيها ولكنه أيضاً لا يدلل على حصولها إنما يحلل الغاية الشرعية منها.

والراسخ في العلم - وهو السعيد بعقله - لايطمئن إلى الظاهر من الشريعة فيسعى إلى التأويل الذي يحتفظ به لنفسه حتى لا يفسد على الإنسان الذي ينشد الفضيلة في الشريعة إيمانه العادي.

ولطالما هناك حدود بين الشرائع والعلماء - أي الفلسفة- فيجب إلاّ يتدخل أي طرفٍ في مجال الآخر.

وهذا يعني أنه لما كانت الفلسفة تأبى الانشغال بترسيمات الشريعة الإيمانية، فعلى الشريعة أيضاً عدم التدخل في نشاط الفيلسوف.

إن الإصرار على هذا التمايز هو الذي يعطي للفيلسوف حرية التفكير في حقلٍ مستقل عن الشريعة لا يناقضها.

إنما أراد ابن رشد ألاّ يرى المعركة مستعرة بين الفقيه والفيلسوف. ولكن هيهات للفقيه أن يقتنع بحرية الفيلسوف، بحرية العقل في اكتشاف الحقيقة، إنه يقف بالمرصاد من كل اختلاف مع ترسيماته الإيمانية مسلحاً بالنص والسلطة والجمهور إنه العنف الذي يواجه العقل الطليق حتى اليوم يابن رشد.
_____________________

د.أحمد برقاوي أساتذ الفلسفة في جامعة دمشق. من مؤلفاته:
- طه حسين : العقلانية ، الديمقراطية ، الحداثة
- المسألة الثقافية في العالم العربي الاسلامي/ رضوان السيد ، احمد برقاوي
- محاولة في قراءة عصر النهضة : الاصلاح الديني ، النزعة القومية
- الامة .. الدين .. الدولة : افكار لزمن قادم : حوارات مع احمد برقاوي ، طيب تيزيني
- التراث و النهضة : قراءات في اعمال محمد عابد الجابري / احمد برقاوي ... ( وآخ ) ؛ اعداد كمال عبداللطيف
________________________________________

(**) - سورة هود 11/113
(1) - نقلاً عن... انطون" ابن راشد وفلسفته، بيروت 1981، ص47- 48.
(2) - ف.ق.ص14
(3) - ف.م.ص14.
(4) - ف.م.ص15
(5) - ف.م.ص18
(6) - ف.م.ص19
(7) - م.ف.ص2
(8) - ف.م.ص22
(9) - سورة آل عمران 3/7
(10) - ف.م.ص22
(11) - ف.م.ص23
(12) - ف.م.ص33
(13) - ف.م.ص33
(14) - ف.م.ص36
(15) - ف.م.ص36.
(16) - الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. بيروت 1979 إلى 2 ص46.
(17) - الكشف عن مناهج الأدلة، ص139
(18) - الكشف عن مناهج الأدلة، ص139- 141.
(19) - الكشف عن مناهج الأدلة، ص141
(20) - ابن رشدن تهافت التهافت، القسم الثاني، القاهرة بلا تاريخ ص791- 792. تحقيق الدكتور سليمان دينا- سورة آل عمران 3/7.





    رد مع اقتباس
قديم 2014-10-04, 23:42 رقم المشاركة : 12
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.




النظر في الفلسفة والمنطق بين ابن رشد والغزالي



تدور هذه المناظرة بين الغزالي الذي ألف كتابه “تهافت الفلاسفة” في القرن الحادي عشر الميلادي ، ليهاجم فيه آراء الفلاسفة ومعتقداتهم ، حيث قال ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أنني رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء وقد رفضوا وظائف الإسلام واستحقروا شعائر الدين واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعي وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم فلما رأيت هذا العرق من الحماقة انتدبت لتحرير هذا الكتاب
وابن رشد الذي واجه آراءه بعد ذلك بالنقد والتمحيص ،حيث ألف كتاب تهافت التهافت ، للرد على الغزالي ، وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي .
وقد أشار ابن رشد في مقدمة كتابه هذا أن الغرض منه أن يبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبه اليقين والبرهان.
والأقاويل المثبتة كما عرفها أرسطوو قال بها إبن رشد: من زاوية الصدق واليقين هي:
الأقاويل البرهانية.
الأقاويل الجدلية.
الأقاويل السفسطائية.
الأقاويل الخطابية.
الأقاويل الشعرية.
وفي هذا الكتاب يخالف ابن رشد كلا من الغزالي والفلاسفة وابن سينا الرأى أحياناً ، وأحيانا أخرى يوافقهم، ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم)
وقد تكلم الغزالي وابن رشد باسم الدين ،واستخدم كلاهما النص الديني سواءلتأكيد رأيه ، وظهرت آراؤهما متضاربة ،الأمر الذي يجعل تحديد مدى صحة أيهما أوخطئه من النظرة الأولية ، أمراً صعباً .
تعريف ابن رشد للفلسفة
ومن أهم المواضع التي تكلم فيها ابن رشد عن الفلسفة وكيف يفهمها كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال حيث قال ” إذا كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني : من جهة ماهي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فيبين أن مايدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع وإما مندوب إليه” .
وحاصل تعريف ابن رشد للفلسفة أنه عرفها بأنها النظر العقلي بشرط معرفة الخالق حالا أو مآلا .
استدلال ابن رشد على طلب الاعتبارالعقلي
وتعالج هذه المناظرة قضية الصلة بين الشريعة الإسلامية والفلسفة، وتنطلق من طرح السؤال عن السلوك الفلسفي هل هو مباح أم منهي عنه أم واجب أم مندوب ؟ لان الإجابة عن هذا السؤال –في نظر ابن رشد- ضرورية ابتداء لمن يريد القيام بإصلاح فكري يكون للفلسفة دورها فيه. ذلك أنه لوجاءت الإجابة بالتحريم كما ذهب إلى ذلك مالكية عصره لأصبحت مهمة الإصلاح عسيرة ، إما إذا جاءت الإجابة بالإباحة بحيث يتساوى فيها الفعل و الترك فيمكن أن لايكون لها دور في الإصلاح الفكري إذا ما اختير تركها، ولو جاءت الإجابة بالندب فسيكون دورها محدودا استحبابيا، ولكن إن كانت الإجابة بالوجوب فعندها سيكون للفلسفة دور رئيس في الحياة.
وقد كان الرأي الذي ذهب إليه ابن رشد هي أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل فيالموجودات واعتبارها حيث قال ” إذا كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع ” وهذا هو فعل التفلسف الذي يتم الاعتبار فيه ” استنباط المجهول من المعلوم ” الذي هو ممارسة للقياس العقلي أي لعلم المنطق.
وشرع في الاستدلال على أن الاعتبارمطلوب شرعا، فقال : ” فأما أن الشرع دعاإلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلبمعرفتها به، فكذلك بين في غير ما آية منكتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى: (فاعتبروا يأولي الأبصار ) وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي أو الشرعي معا.
فاستنبط من الأمر بالاعتبار وجوب معرفة أنواع الاستدلال العقلي، أي المنطق بمباحثه ومسائله، من قياس برهاني، وخطابي، وغيرهما، واستدل ابن رشد على ذلك بقوله: فإنه كما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها، وما منها بقياس وما منها ليس بقياس، كذلك يجب على العارف أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه، بل هو أحرى بذلك لأنه إذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وجوب معرفة القياس الفقهي، فكان بالحري أن يستنبط من ذلك العارف وجوب معرفة القياس العقلي، واستلزم لذلك فتوى وجوب النظر في كتب القدماء و الاستعانة بها حتى تكتمل المعرفة بالفلسفة وعلوم المنطق ،لأن وقوف واحد من الناس –في نظره- على المعارف كلها من تلقائه وابتدائه عسيرأو غير ممكن.
يقول ابن رشد ” فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا للنظر فيها، وهو الذي جمع بين أمرين أحدهما : ذكاء الفطرة، و الثاني العدالة الشرعية و الفضيلة العلمية و الخلقية، فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة ، وذلك غاية الجهل و البعد عن الله تعالى” وكأنه يريد من ذلك إيجاب النظر في كتب أرسطو و الاستفادة منها في مختلف البحوث التي بحث فيها من طبيعيات وإلهيات…الخ بشرط أن تكون موافقة لشرائط البرهان.
ويتدرج ابن رشد في فتواه بوجوب الاشتغال في الفلسفة والنظر في كتب القدماء منهم ليصل إلى نتيجة أن الفلسفة التي تقوم على النظر البرهاني لا تتعارض نتائجها مع المعرفة الواردة في الشريعة الاسلامية لأن شريعتنا هذه الإلهية حق وما نصل إليه من معرفة بطريق النظر البرهاني حق و الحق -كما يقول- ” لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
هذا هو التصور الكلي الذي انطلق منه ابن رشد في مناظرته للغزالي، فهو يرى أن دراسة الفلسفة والمنطق و النظر كتب القدماء واجبة شرعا لمن كان أهلا لها، والتفلسف البرهاني المنضبط بالضوابط الشرع، لا يخالف الشريعة وما جاء فيها، بل يوافقها ويشهد لها ويدعهما، كما توافقه الشريعة وتشهد له في الوقت نفسه، وهذا هو تقرير الصلة بين الحكمة والشريعة من الاتصال.





    رد مع اقتباس
قديم 2014-10-04, 23:44 رقم المشاركة : 13
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.



مشكلة المكان في فلسفة ابن رشد
عبد العزيز لعمول


يهدف هذا المقال إلى تقديم نظرة عامة حول مشكلة المكان في فلسفة أبي الوليد بن رشد من خلال بعض تواليفه الطبيعية والمنطقية، لا سيما منها "جوامع السماع الطبيعي" و"تلخيص السماء والعالم" وتلخيص كتاب المقولات، لندرك مدى تطور فكر الرجل بصدد مشكلة المكان وما يحوم في فلكها من معضلات فلسفية تستأثر باهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة على امتداد تاريخ الفكر البشري بوجه عام. وقبل أن نمحص طبيعة المكان لدى ابن رشد يحسن بنا أولا أن نبحث عن أصول وجذور مشكلة المكان كما أثارها أرسطو في كتاب "الطبيعة". الأمر الذي يستوجب التساؤل عن الأسباب التي دفعت بالمعلم الأول إلى إثارة مسألة المكان في المقالة الرابعة من كتاب "الطبيعة" دون غيره من النصوص الطبيعية الأخرى.

أصول مشكلة المكان:

إن المتأمل في كتاب الطبيعة لأرسطو سيقف لا محالة على أصلين أساسيين لمشكلة المكان كغيرها من المشكلات الفلسفية والعلمية الأخرى الواردة في هذا الكتاب. هذان الأصلان هما:

أ - أصل علمي: يتمثل في دفاع أرسطو عن إمكانية قيام العلم الطبيعي -ضدا على منكريه- اعتمادا على مبادئ علمية، ذلك أن كتاب الطبيعة لأرسطو يتناول من جهة أولى المبادئ المؤسسة للعلم الطبيعي من قبيل: المادة والصورة والعدم، لا للبرهنة على وجودها، لأن ذلك يتكفل ببيانه صاحب علم ما بعد الطبيعة، بل فقط لحصر عددها، والحديث عن علاقة بعضها ببعض، وبيان ما السبب الذي بالذات والذي بالعرض(1). كما أنه يتناول بالدراسة والتحليل من جهة ثانية، اللواحق العامة للأجسام الطبيعية كالمكان والزمان والحركة واللانهاية… ولما كانت الطبيعة في نظر أرسطو مبدأ حركة وسكون في الشيء"(2) فإنه يستوجب على صاحب العلم الطبيعي أن ينظر في أمر الحركة ليعلم الطبيعة ما دامت الحركة تدخل في حد الطبيعة، ولكي يعلم الحركة يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتحدث عن المكان والزمان، إذ لا وجود لحركة بدونهما.

ب - أصل سجالي: ينحصر أساسا في الرد على بعض التيارات الفكرية والفلسفية سواء منها التي تنفي وجود مبادئ يقوم عليها العلم بدليل أن كل شيء قابل للبرهنة بما في ذلك مبادئ العلوم (السوفسطائيون)، أو تلك التي ترى أن المبادئ واحدة (الطبيعيون الأوائل)، أو متعددة (الذريون)(3). كما يتمثل هذا الأصل السجالي أيضا في الرد على نفاة المكان وعلى القائلين بالخلاء سواء الذين يتبثونه بعدا مفارقا أو غير مفارق. وسنفرد لهذه المسألة حديثا مفصلا في ثنايا هذا العرض لا سيما في سياق الحديث عن ماهية المكان.

طبيعة المكان عند ابن رشد.

أول ما يثير انتباه الدارس لكتاب جوامع السماع الطبيعي خاصة المقالة الرابعة منه هو أن ابن رشد لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحجج ليثبت من خلالها وجود المكان خلافا لأرسطو وابن سينا اللذين يسهبان في الرد على نفاة المكان، إذ يصادر على وجوده، وذلك بمجرد تأمل محمولاته الذاتية التي لا تليق إلا بالموجود(4) إلا أنه لا بد من التساؤل هنا عن الأسباب التي دفعت بابن رشد وقبله ابن باجة إلى عدم الخوض في مجادلة نفاة المكان، فهل المسألة تعود إلى عدم أهميتها في الغرب الإسلامي، خاصة إذا علمنا أن ابن سينا سيحدو حدو أرسطو في هذا السياق أم أن الأمر يرجع إلى مجرد عملية تلخيص النص الأرسطي وعدم متابعته متابعة حثيثة؟

مهما يكن من أمر هذه التساؤلات، فإن الغرض من هذا القول أن نمحص طبيعة المكان عند ابن رشد. وقبل ذلك نتساءل ما مختلف المواقف التي يعارضها أبو الوليد بصدد مشكلة المكان؟ كيف يتصور فيلسوف قرطبة ومراكش ماهية المكان؟ وأخيرا، ما الطريقة التي يسلكها في استنباط الحد التام لمفهوم المكان؟

يقترح ابن رشد أربعة احتمالات لا تخرج عنها ماهية المكان وهي: إما أن يكون المكان هو الهيولى، أو الصورة، أو الخلاء، أو النهاية المحيطة بالجسم الطبيعي.

المكان/الهيولى أو الصورة.

يرفض ابن رشد أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة لسبب بسيط هو أن حركة النقلة (المكانية) تصبح كونا وفسادا(5). وهذا ما يعبر عنه ابن باجة في قوله "فمنهم من رأى الهيولى هي المكان، وهذا بين الفساد، فإن المكان ليس بمنتقل بانتقال المتمكن فيه والهيولى هي التي تنتقل لا الصور"(6). أما ابن سينا فيرفض هو الآخر أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة اعتمادا على بعض التقابلات بين الطرفين، وذلك أن من يرى الهيولى أو الصورة مكانا فهو قول فاسد، لأن المكان يفارق عند الحركة، أما الهيولى أو الصورة لا يفارقان، كما أن المكان تكون الحركة فيه وإليه، أما الهيولى والصورة لا تكون الحركة فيهما، بل معهما، ولا تكون إليهما الحركة البتة(7). نفس الأمر نجده لدى أرسطو، إذ ينفي أن يكون المكان هو الهيولى أو الصورة معتمدا في ذلك على بعض القرائن يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

- الهيولى والصورة لا يفارقان المركب، بينما المكان يفارق المركب، فالمكان إذن غيرهما.

- المكان من حيث هو مفارق ليس بصورة للمركب، ومن حيث إنه يحيط ليس بهيولى، لأن الهيولى لا تحيط، بل يحاط بها.

- المكان إما فوق وإما أسفل، وليس بشيء من الهيولى أو الصورة فوق أو أسفل.

- لو كان المكان صورة لكان يفسد، إذا انتقل الماء إلى الهواء واستحال إليه، لأن صورة الماء قد فسدت.

- لو كان المكان هيولى أو صورة مع أن المركب قد ينتقل من مكان إلى مكان لكان المكان قد تحرك إلى مكان، فيكون مكان في مكان وذلك مستحيل.

- المكان ينتقل إليه أما الهيولى والصورة فتنتقلان(8).

المكان/الخلاء:

ينفي ابن رشد أن يكون المكان هو الخلاء سواء كان بعدا مفارقا أو غير مفارق، ويفرد بحثا عميقا في مساجلة القائلين بالخلاء لا سيما منهم أصحاب المذهب الذري الذي يتبثونه كعلة للحركة، إذ يعتقدون أنه لا وجود لحركة ما لم يكن هناك خلاء. لكن أبا الوليد يرى أن مثل هذا القول يؤدي إلى محالات كثيرة منها:

1 - استحالة وجود بعد مفارق.

يقدم فيلسوف قرطبة مثال "النقطة" ليثبت من خلاله استحالة وجود بعد مفارق للجسم، إذ يرى أنه إذا أمكن أن يوجد بعد مفارق للجسم، فيمكن ذلك أيضا في النقطة، لأن نسبة النقطة إلى الخط هي نسبة الخط إلى السطح، والسطح إلى الجسم، لذلك يلزم ضرورة متى فارق الجسم الأبعاد أن يفارق السطح الجسم، وأن يفارق الخط السطح، وبالتالي أن تفارق النقطة الخط، وهذا محال، لأن النقطة لا وجود لها إلا بنسبتها إلى الخط. ذلك أن صاحب العلم الطبيعي ينظر إلى النقطة من حيث هي نهايات أجسام طبيعية لا من حيث هي ذوات قائمة بذاتها كما ينظر إليها التعاليمي، لذلك التبس الأمر عند قوم (الفيتاغوريون) فظنوا أن ما هو مفارق بالقول مفارق بالوجود أيضا، فقالوا بمفارقة الأعداد والأعظام.

2 - استحالة تداخل الأجسام.

إن الأجسام الطبيعية تحل في المكان بأبعادها لا بأعراضها، ومن ثم يمتنع أن يحل جسمان في مكان واحد من جهة امتناع تداخل الأجسام بعضها ببعض.

3 - استحالة حلول مكان في مكان:

يحل الجسم الطبيعي في المكان بأبعاده، ولو كانت الأبعاد هي المكان لاحتاجت إلى مكان، وبالتالي يحل المكان في مكان وتمر المسألة إلى ما لا نهاية، ومن ثم يلزم شك زينون الإيلي في عدم إمكانية وجود المكان(9).

أما ابن باجة فيشك في وجود الخلاء، بل يذهب أبعد من ذلك، إذ يرى بأن الخلاء هو سبب لبطلان الحركة(10).

المكان هو النهاية المحيطة.

بعد أن يرفض ابن رشد القول بأن المكان هو الهيولى أو الصورة أو الخلاء، يبقى إذن الاحتمال الرابع والأخير الذي مفاده أن المكان هو النهايات المحيطة بالجسم الطبيعي، إذ يقول في هذا السياق: "المكان هو النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها"(11). إذا تأملنا هذا التعريف نجد أن المكان يدل على نهاية الحركة وغاية الجسم المتحرك وكماله، ذلك أن الأجسام الطبيعية تنتقل إلى مكانها الطبيعي حيث تسكن. وقد اعتمد ابن رشد في حد مفهوم المكان حدا تاما على البرهان المطلق أو ما يسميه أرسطو في الحقيقة برهانا متغيرا بالوضع، إذ يرى أن المكان هو الذي تنتقل إليه الأجسام الطبيعية وتسكن فيه، وما كان بهذه الصفة فهو نهاية جسم محيط. فإذا قمنا بتغيير وضع هذا البرهان، أي ننطلق من النتيجة إلى المقدمات، فإننا نحصل على الحد التام للمكان فنقول بأنه النهاية المحيطة لكونها استكمالا للأجسام المتحركة وغاية تحريكها. ونفس التعريف نجده لدى ابن سينا إذ يقول: "المكان ليس بجسم ولا مطابقا للجسم، بل محيطا به، بمعنى أنه منطبق على نهايته انطباقا أوليا"(12).

إذا كانت حركة الأجسام الطبيعية لا سيما التي تتحرك حركة نقلة تقتضي وجود المكان، فهناك إشكال يثار بصدد مكان الجسم المساوي الذي يتحرك حركة دورية، مفاده: ما هو مكان الجسم السماوي؟ كيف يمكن أن يتحرك، خاصة إذا علمنا أن من ضرورة وجود الحركة المكان؟

يورد ابن رشد حلا لهذا الإشكال مؤداه أن حركة الجسم السماوي حركة دورية، ومن ثم فهو يحتاج إلى مركز ثابت عليه يتحرك، وأن علاقته بالمكان بالعرض لا بالذات، وهذا ما يذهب إليه أرسطو نفسه خلافا للفارابي وابن باجة اللذين يعتقدان أن الكرة في مكان بالذات، ومثل هذا القول يلزم أن المحيط في المحاط به في مكان بالذات وذلك مستحيل. أما ابن سينا فيرى أن الحركة الدورية ليست في مكان أصلا لا بالذات ولا بالعرض، وإنما هي في الوضع. إلا أن أبا الوليد يرى أن الشيخ الرئيس إن أراد القول بأن الحركة تنتقل من وضع إلى وضع من غير أن تبدل المكان بجملتها فهو قول صحيح. أما إذا أراد القول بأن حركة الكرة في الوضع نفسه وهذا هو الراجح من كلامه، فليس بصحيح، لأن الوضع ليس فيه حركة أصلا بدليل أن الوضع لا يتقوم بذاته بل بالمكان(13). كما يرى فيلسوف قرطبة ومراكش أن الجرم السماوي الذي يتحرك حركة مستديرة لا يمكنه أن يتحرك لا حركة إلى الوسط (إلى أسفل) ولا حركة من الوسط (إلى أعلى) لا بالذات ولا بالعرض لسبب بسيط هو أنه ليس بثقيل ولا بخفيف(14).

مما تقدم ذكره نستنتج أن الحديث عن المكان لا يتأتى إلا في علاقته ببعض المفاهيم المتاخمة له من قبيل: الحركة، الاتصال، الزمان…باعتبارها من المفاهيم المؤسسة للعلم الطبيعي، إذ لا وجود لمفهوم بسيط ومنعزل، فلكل مفهوم علاقة تجاور بمفاهيم أخرى بها يتحدد، كما يذهب إلى ذلك كل من ج. دولوز وف. جاتاري في كتابهما "ما الفلسفة"؟(*)

المكان والحركة:

من أهم الحجج التي يعتمدها مثبتو المكان وجود حركة النقلة، إذ لولاها لما وجد مكان، ذلك أن الحركة هي التي قادت إلى البحث في أمر المكان، فالنظر في المكان يستوجب النظر في الحركة ما دامت تدخل في حد المكان كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فالمكان إذن لا يتوقم بذاته، بل بالحركة، كما أن الحركة ليست جوهرا قائما بذاته، إذ لا يمكن تصورها من غير مكان، لأن كل حركة هي حركة لجسم ما، والجسم لا يكون إلا في مكان. فإذا كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: هل المكان من طبيعة الكم المنفصل أم المتصل؟

المكان والاتصال:

يقدم ابن رشد تعريفا للكم المتصل في كتابه "تلخيص كتاب المقولات" مفاده أنه هو الذي يمكن أن يوجد له حد مشترك يربط بين أجزائه. فالحد المشترك إذن للخط هو النقطة، وللبسيط (السطح) هو الخط، وللجسم هو البسيط، وللزمان هو الآن، ما دام الآن هو نهاية الماضي وبداية المستقبل(15). إلا أن الإشكال يطرح بصدد مفهوم المكان، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: هل للمكان أجزاء؟ وما الحد المشترك الذي يربط بين أجزائه؟ كيف إذن يحل ابن رشد هذه المعضلة؟

يبرهن فيلسوف قرطبة على أن للمكان أجزاء، وبالتالي فهو من طبيعة الكم المتصل، إذ يرى أن المكان يشغله الجسم، وأن للجسم أجزاء هو البسيط، فإذن للمكان أجزاء، ومن ثم، فإن له حدا مشتركا يربط بين أجزائه، ومن كان بهذه الصفة فهو من الكم المتصل، أما البرهان الثاني فيمكن أن نصوغه في الشكل التالي: الكم المتصل له أجزاء، المكان له أجزاء، إذن المكان كم متصل.

نلخص مما تقدم قوله إلى أن المكان من الكم المتصل الذي له أجزاء لها وضع، أي موجودة معا بخلاف الزمان الذي ليس من الكم المتصل ذي الوضع، لأن أجزاء الزمان التي هي الماضي والآن والمستقبل لا توجد معا. وهذا ما نلمسه في تعريف ابن باجة للمكان إذ يقول في هذا السياق: "المكان كله متصل متشابه الأجزاء وقوامه بالحركة"(16). إلا أن السؤال المطروح هو: ما الدافع بابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام إلى إثبات أن المكان من طبيعة الكم المتصل؟

إن دفاع ابن رشد على أن المكان من الكم المتصل يعارض من خلاله أطروحة الانفصال التي تعتقد أن المكان عبارة عن نقط متناثرة خاصة أصحاب المذهب الأشعري اعتمادا على نظرية "الجزء الذي لا يتجزأ" أو ما يسمى "بالجواهر الفردة" لنفي كل علة طبيعية وترك المجال للعلة الميتافيزيقية هي سبب الحركة.

المكان ولزمان:

يعد الزمان أيضا من المفاهيم المتاخمة لمفهوم المكان، إذ لا يمكن الحديث عن المكان إلا في علاقته بالزمان، ما دام الزمان يشبه الحركة لا سيما منها حركة النقلة التي هي أشرف الحركات على الإطلاق، وذلك أن أجزاء الحركة بعضها قد تفسد وبعضها قد تكون كالحال في الزمان، وبالتالي، فإننا متى لم نشعر بالحركة لم نشعر بالزمان، خصوصا إذا علمنا أن الزمان يدخل في حد الحركة ومقايس لها بالذات لا بالعرض.

في خاتمة هذا المقال يمكن القول بأن نظرة أبي الوليد بن رشد للمكان نظرة طبيعية محضة تعكس تطور علوم الحكمة الطبيعية في الغرب الإسلامي. هذا التطور الذي دشنه فيلسوف سرقسطة أبو بكر الصائغ (ابن باجة) من خلال شروحه الطبيعية التي تعد مرحلة النضج الفكري تجاوز فيها ابن باجة حدود النظر المنطقي والتعاليمي وتفرغ للمتن الأرسطي المشائي(17). كما يمكن أن نعتبر تجربة ابن رشد لحظة تجمع كل التجارب السابقة عليه فارابية كانت أو سنيوية أو باجوية.



الهوامش

1 - أرسطو طاليس، الطبيعة، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984، الجزء الأول: "فمن البين أن في العلم بأمر الطبيعة أيضا قد ينبغي أن نلتمس أولا فيه تلخيص أمور مبادئها" ص 1.

2 - أرسطو، ن.م. "الطبيعة مبدأ وسبب لأن يتحرك ويسكن الشيء الذي هي فيه أولا بالذات لا بطريق العرض" ص 79. ويقول أيضا "الطبيعة مبدأ للحركة والوقوف والتغير"، ص 165.

3 - أرسطو، ن.م. "وقد يجب ضرورة أن يكون المبدأ إما واحد، وإما أكثر من واحد. وإن كان واحدا فإما أن يكون غير متحرك على مثال ما قاله برمنيدس ومالسس، وإما أن يكون متحركا على ما قاله الطبيعيون… وإن كانت المبادئ أكثر من واحد: فإما أن تكون متناهية، وإما أن تكون غير متناهية" ص 5.

4 - ابن رشد، جوامع السماع الطبيعي، تحقيق جوزيف بويج، مدريد، 1983 "أما أن المكان شيء موجود فذلك بين بنفسه، فإنه يظهر أن ههنا محمولات ذاتية لا تليق إلا بالموجود، كقولنا أن المكان منه فوق ومنه أسفل، وأنه الذي إليه تنتقل الأجسام بالطبع وتسكن فيه، وأنه يحيط بالمتمكن، وأنه يفارق المتمكن، وأنه لا أعظم ولا أصغر من المتمكن"، ص 47.

5 - ابن رشد، ن.م. "أما القسم الأول (يقصد المكان هو الهيولى)، وهو أن يكون الشيء كالصورة في الهيولى، فيكون المكان على هذا هيولى، فامتناع ذلك بين بنفسه، وإلا كانت النقلة كونا وفسادا، وكذلك الحال في القسم الثاني". (يقصد المكان هو الصورة) ص 50.

6 - ابن باجة، "شرح السماع الطبيعي لأرسطوطاليس"، تحقيق ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت، 1973، ص 46.

7 - ابن سينا، الشفاء، السماع الطبيعي، تحقيق سعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص 118.

8 - أرسطو، ن.م. ص 284 إلى 289.

9 - ابن رشد، ن.م ، ص ص 50، 51، 52.

10 - ابن باجة، ن.م "والذي يثبت الخلاء فيجعله سببا للحركة، وهو مع التأمل لو كان، سبب لبطلانها، وذلك أن الذي منه فوق يحرك شيئا، والذي منه أسفل يحرك ذلك بعينه، فيلزم أن يقف الشيء بين الحركتين" ص 48.

11 - ابن رشد، ن.م، ص 49.

12 - ابن سينا، ن.م، ص 138.

13 - ابن رشد، ن.م، ص 55-56.

14 - ابن رشد، تلخيص السماء والعالم، تحقيق جمال الدين العلوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ط 1، 1984. "وكان الجسم المستدير قد تبين من أمره أنه لا يمكن أن يتحرك إلى الوسط ولا من الوسط حركة طبيعية ولا عرضية"، ص 84.

(*) انظر كتاب "ما الفلسفة؟" لجيل دولوز وفيليكس جاتاري، منشورات مينري، باريس، 1991، ص 8.

15 - ابن رشد، تلخيص كتاب المقولات، تحقيق موريس بويج، دار المشرق، بيروت، ط 2، 1983. "وأما الخط والبسيط والجسم والزمان والمكان فمن المتصل، لأن كل واحد منها يمكن أن يوجد له حد مشترك يصل بعض أجزائه ببعض. وهذا الحد أما في الخط فهو النقطة وأما في البسيط فالخط وأما في الجسم فالبسيط وأما في الزمن فالآن، وذلك أن بالنقطة تتصل أجزاء الخط وبالخط تتصل أجزاء السطح وبالسطح تتصل أجزاء الجسم وبالآن تتصل جزءا الزمان الذي هو الماضي والمستقبل"، ص 39-40.

16 - ابن باجة، ن.م، ص 45.

17 - محمد ألوزاد، الديناميكا في شروح السماع الطبيعي لابن باجة السرقسطي، استدراك على مقال سالمون بنيس S. Pines، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ااا، المحمدية، ص 23.






    رد مع اقتباس
قديم 2014-10-04, 23:51 رقم المشاركة : 14
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.


بعض المآخذ في عقيدة ابن رشد الحفيد



السؤال: ما هي عقيدة الإمام ابن رشد ، وما حقيقة خلافه مع الإمام أبي حامد الغزالي ؟ جزاكم الله خيراً .

الجواب : الحمد لله
أولا :
ابن رشد اسم مشترك بين ابن رشد الحفيد ، وابن رشد الجد ، وكلاهما يُكنَى بأبي الوليد ، وكلاهما يحمل اسم : محمد بن أحمد ، كما أن كلا منهما تولى قضاء قرطبة .
والمقصود في السؤال هو ابن رشد الحفيد ، المتوفى سنة (595هـ)، المشهور باشتغاله وتأليفه في الفلسفة ، أما ابن رشد الجد فلم يشتغل بها ، وتوفي سنة (520هـ).
قال الأبار :
لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا ، وكان متواضعا ، منخفض الجناح ، يقال عنه : إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين : ليلة موت أبيه ، وليلة عرسه ، وإنه سود في ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة ، ومال إلى علوم الحكماء ، فكانت له فيها الإمامة . وكان يُفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه ، مع وفور العربية ، وقيل : كان يحفظ ديوان أبي تمام والمتنبي .
ومن أشهر مصنفاته : ( بداية المجتهد ) في الفقه ، و ( الكليات ) في الطب ، و ( مختصر المستصفى ) في الأصول ، ومؤلفات أخرى كثيرة في الفلسفة ، اهتم فيها بتلخيص فكر فلاسفة اليونان ، فألف : كتاب ( جوامع كتب أرسطوطاليس ) ، وكتاب ( تلخيص الإلهيات ) لنيقولاوس ، كتاب ( تلخيص ما بعد الطبيعة ) لأرسطو ، ولخص له كتبا أخرى كثيرة يطول سردها ، حتى عرف بأنه ناشر فكر أرسطو وحامل رايته ، وذلك ما أدى به في نهاية المطاف إلى العزلة ، فقد هجره أهل عصره لما صدر منه من مقالات غريبة ، وعلوم دخيلة .
قال شيخ الشيوخ ابن حمويه :
لما دخلت البلاد ، سألت عن ابن رشد ، فقيل : إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب ، لا يدخل إليه أحد ، لأنه رفعت عنه أقوال ردية ، ونسبت إليه العلوم المهجورة ، ومات محبوسا بداره بمراكش .
يمكن مراجعة سيرته في " سير أعلام النبلاء " (21/307-310)
ثانيا :
قد طال الجدل حول حقيقة عقائد ابن رشد ، وكثرت المؤلفات ما بين مؤيد ومعارض ، واضطربت الأفهام في تحديد عقائده ومذاهبه .
ولضيق المقام ههنا عن الدراسة المفصلة لعقائد ابن رشد ، سنكتفي بذكر بعض المآخذ المجملة التي كانت مثار جدل في مؤلفاته :
1- تأويل الشريعة لتوافق الفلسفة الآرسطية :
لعل الاطلاع على ترجمة ابن رشد الموجزة السابقة كاف للدلالة على هذه التوجهات الفكرية لدى ابن رشد ، فقد أُخِذَ بفكر أرسطو ، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " هو من أتبع الناس لأقوال آرسطو " انتهى. " بيان تلبيس الجهمية " (1/120)، وحاول جاهدا شرحه وبيانه وتقريره للناس بأسلوب عربي جديد ، وهو - خلال ذلك - حين يرى مناقضة فكر أرسطو مع ثوابت الشريعة الإسلامية ، يحاول سلوك مسالك التأويل البعيدة التي تعود على الشريعة بالهدم والنقض ، وكأن فلسفة أرسطو قرين مقابل لشريعة رب العالمين المتمثلة في نصوص الكتاب والسنة ، ولذلك كتب كتابه المشهور : " فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ".
2- اعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة :
يقول ابن رشد :
" الشريعة قسمان : ظاهر ومؤول ، والظاهر منها هو فرض الجمهور ، والمؤول هو فرض العلماء ، وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله ، وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور ، كما قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " انتهى.
" الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/99) طبعة مركز دراسات الوحدة العربية.
وقد استغرق ابن رشد في تقرير هذه الفكرة الباطنية في كتبه ، حتى إنه جعل من أبرز سمات الفرقة الناجية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها هي " التي سلكت ظاهر الشرع ، ولم تؤوله تأويلا صرحت به للناس " انتهى. " الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/150).
ولذلك توسع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على خصوص كلام ابن رشد في هذا الكتاب ، وبيان بطلان التفسير الباطني لنصوص الشريعة ، وذلك في كتابيه العظيمين : " بيان تلبيس الجهمية " ، ودرء تعارض العقل والنقل .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية ؛ بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب : سلك مسلك التخييل ، وقال : إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم ؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك . فهؤلاء يقولون : إن الرسل كذبوا للمصلحة . وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (19/157) .
3- مال في باب " البعث والجزاء "، إلى قول الفلاسفة أنه بعث روحاني فقط ، بل وقع هنا في ضلالة أعظم من مجرد اعتقاده مذهب الفلاسفة في البعث الروحاني ؛ حيث جعل هذه المسألة من مسائل الاجتهاد ، وأن فرض كل ناظر فيها هو ما توصل إليه . قال :
" والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها " انتهى.
" الكشف عن مناهج الأدلة " (ص/204)

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأولئك المتفلسفة أبعد عن معرفة الملة من أهل الكلام :
فمنهم من ظن أن ذلك من الملة .
ومنهم من كان أخبر بالسمعيات من غيره ، فجعلوا يردون من كلام المتكلمين ما لم يكن معهم فيه سمع ، وما كان معهم فيه سمع كانوا فيه على أحد قولين : إما أن يقروه باطنا وظاهرا إن وافق معقولهم ، وإلا ألحقوه بأمثاله ، وقالوا إن الرسل تكلمت به على سبيل التمثيل والتخييل للحاجة ، وابن رشد ونحوه يسلكون هذه الطريقة ، ولهذا كان هؤلاء أقرب إلى الإسلام من ابن سينا وأمثاله ، وكانوا في العمليات أكثر محافظة لحدود الشرع من أولئك الذين يتركون واجبات الإسلام ، ويستحلون محرماته ، وإن كان في كل من هؤلاء من الإلحاد والتحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة ، ولهم من الصواب والحكمة بحسب ما وافقوا فيه ذلك .
ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مظهرا للوقف ، ومسوغا للقولين ، وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل ، وقد رد على أبي حامد في تهافت التهافت ردا أخطأ في كثير منه ، والصواب مع أبي حامد ، وبعضه جعله من كلام ابن سينا لا من كلام سلفه ، وجعل الخطأ فيه من ابن سينا ، وبعضه استطال فيه على أبي حامد ، ونسبه فيه إلى قلة الإنصاف لكونه بناه على أصول كلامية فاسدة ، مثل كون الرب لا يفعل شيئا بسبب ولا لحكمة ، وكون القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، وبعضه حار فيه جميعا لاشتباه المقام " انتهى.
" منهاج السنة " (1/255)
4- ولعل من أبرز سمات منهج ابن رشد في كتبه ، وفي الوقت نفسه من أبرز أسباب أخطائه هو عدم العناية بالسنة النبوية مصدرا من مصادر التشريع .
يقول الدكتور خالد كبير علال حفظه الله :
" ابن رشد لم يُعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم ، ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية ، ففاتته أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها ، كما أن الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا ، وأخضعه للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته " انتهى.
" نقد فكر الفيلسوف ابن رشد " (ص/97)

هذه بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن توضح بعض مآخذ العلماء على عقيدة ابن رشد الحفيد ، وهي في محصلها ترجع إلى إلغاء كثير من موازين الشريعة التي ضبط بها الشارع حدودها ، والدعوة إلى سلوك التأويل والاجتهاد في بعض مسلماتها ، انطلاقا من أفكار دخيلة جاءت من حضارات قديمة بائدة .
ولأجل ذلك احتفى به كثير من المحسوبين على التوجهات العلمانية والليبرالية المتحررة اليوم ، حتى نسبوا ريادة الفكر التنويري للفيلسوف ابن رشد ، وهم يعلمون أن كثيرا من العلوم الواردة في كتبه تعد من العلوم البائدة التي يجزم العلم الحديث بخطئها ، ولكن غرضهم تمجيد كل فكر متحرر من ثوابت الشريعة ، متحرر من حقائق نصوصها إلى المجازات والتأويلات ، وفي الوقت نفسه يلبس لبوس الدين والعلم والفقه ، فرأوا في ابن رشد ضالتهم ، وفي كتبه رائدا لهم ، وإن كنا نحسب أن في كتبه من إظهار التمسك بالشريعة والرجوع إليها ما لا نجده في كتب هؤلاء القوم ، وكان عنده من لزوم الجانب العملي في الشريعة ، وتعظيمها في الفقه والقضاء والفتيا ما لا يعجب القوم ، ولا يبلغون معشاره : قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ !!

والله أعلم .






    رد مع اقتباس
قديم 2014-10-04, 23:53 رقم المشاركة : 15
خادم المنتدى
مدير التواصــل
 
الصورة الرمزية خادم المنتدى

 

إحصائية العضو








خادم المنتدى غير متواجد حالياً


وسام المشاركة السيرة 1438ه

وسام المشاركة في مسابقة السيرة النبوية العطرة

العضو المميز لشهر فبراير

افتراضي رد: منتدى فرعي لمواضيع الفلسفة.


أثر ابن رشد في الفكر السياسي الغربي
الدكتور عبد السلام بن مَيْسَ
كلية الآداب ـ الرباط
نُنَبّه أولاً إلى صعوبة تناول الفكر السياسي الرشدي، نظراً لأسباب كثيرة أهمها:
1 ـ لم يُخَلِّف لنا ابن رشد شرحاً لـ"كتاب السياسة" لأرسطو كما فعل لباقي مؤلفات هذا الفيلسوف. وبهذا تضيع مِنّا فرصةٌ للتعرف إلى أفكار ابن رشد السياسية بشكل مفصل؛
2 ـ لما شرح ابن رشد "جمهورية" أفلاطون، فعل ذلك بأعين أرسطية؛ وبالتالي يصعب التمييز بين ما يعتقده ابن رشد من جهة وما يجعل ابن رشد أفلاطون وأرسطو يعتقدانه من جهة ثانية وما يعتقدانه فعلاً من جهة ثالثة؛
3 ـ ما نعرفه عن شرح ابن رشد لـ"جمهورية" أفلاطون هو ما نقلته لنا الترجمات العِبْرية واللاتينيةِ([1])؛ أما النص العربي الأصلي، فقد ضاع. وهذا أمر يُعَقّد مهمة من يرغب في التعرف إلى الفكر الرشدي السياسي بدقّة:
4 ـ الخلط الذي حصل لابن رشد أو لمترجمه العِبْرِي عندما اعتبر "جمهورية" أفلاطون الجزء الثاني من كتاب "الأخلاق النِّيقُوماقية" باعتبار الفلسفة العملية تنقسم إلى قسمين: الأخلاق والسياسة([2]).
5 ـ عندما شرح ابن رشد "جمهورية" أفلاطون، فنحن لا نعرف هل اعتمد على نص "الجمهورية" كما ترجمه حُنَين بن إسحاق أو على "جوامع" جالينوس للكتاب نفسه الذي كان هو أيضاً مترجماً إلى اللغة العربية على يد مترجم "الجمهورية" نفسه؛
6 ـ غموض مفهوم المدينة عند ابن رشد، على الأقل من خلال شرحه لـ"جمهورية" أفلاطون؛
7 ـ تعدد مصادر الفكر السياسي الرشدي وتنوعها. فبالإضافة إلى شرح "جمهورية" أفلاطون، هناك:
أ ـ شرح كتاب "الخطابة" لأرسطو؛
ب ـ شرح "الأخلاق النيقوماقية
جـ ـ الشريعة الإسلامية؛
د ـ كتب ابن رشد التي ينتقد فيها المتكلمين (مثل كتاب "فصل المقال" وكتاب "التهافت" وغيرهما).
وبالإضافة إلى هذه الصعوبات التي تطرحها المصادر، هناك صعوبات أخرى تطرحها المراجع والتي تتلخص في ندرة النصوص المتعلقة بالجانب السياسي من فكر ابن رشد بالمقارنة مع ما كُتب حول الجوانب الأخرى مثل الجانب الميتافيزيقي والجانب الفقهي والجانب العلمي وغيرها. والواقع أن مؤرخي الفلسفة لم يُولوا الجانب السياسي الرشديَّ الاهتمامَ الذي يستحقه بالمقارنة مع الاهتمام الذي حظِي به مثلا ابن سينا والغزالي والفارابي وإخوان الصفا والماوردي وابن خلدون وغيرهم. كما أهمل أغلب الباحثين، وربما كان هذا نتيجة لذاك، أثر ابن رشد السياسي في الفكر المسيحي الغربي من خلال ما عُرف بالرشدانية اللاتينية. ولهذا سيكون موضوع بحثنا هذا هو المساهمة في إبراز مدَى ونوع التأثير الذي مارسه الفكر الرشدي، فلسفياً كان أو سياسياً، على الغرب المسيحي بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلاديين.
الفكر السياسي الرشدي
يبدأ ابن رشد شرحه لـ"جمهورية" أفلاطون بالإقرار بأن الإنسان حيوان مجتمعي وأن النظام والتربية ضروريان لضمان السير السليم للمجتمع([3]). لهذا فنحن بحاجة إلى وضع قوانين لتنظيم المدينة ـ الدولة. وهذا بالضبط ما فعله أرسطو قبله عندما اعتبر العلم قسمين: نظري وعملي. فالنظري هو الفيزياء والميتافيزيقا، والعملي هو الأخلاق والسياسة. وعن السؤال: من يستحق الحكم والسهر على السير المنظم للمدينة؟ يجيب ابن رشد بكل بساطة: هم الفلاسفة أو الأئمة، على أساس أن تتوافر فيهم مجموعة من الشروط([4]) نوجز أهمها في ما يلي:
ـ أن يكون لدى الفيلسوف، أو الإمام، استعداد طبيعي لدراسة العلوم النظرية؛
ـ أن يحب الصواب ويكره الخطأ؛
ـ أن يكون شجاعاً؛
ـ أن يكون خطيباً بارعاً؛
ـ ألاَّ يحب المال،...
يأخذ ابن رشد بنظام الشورى على طريقة الخلفاء الراشدين، ولكنه يحذّر من تحول حكم شوري ديموقراطي إلى نظام طغياني كما حصل مع معاوية في الحضارة الإسلامية.
لننبه هنا إلى أن ابن رشد لم يُلَخِّص كل "جمهورية" أفلاطون. فلقد أسقط الكتاب العاشر لكونه، في اعتقاده، غير مفيد لعلم السياسة. وهو كتاب خصصه أفلاطون للشعر. كما أسقط أيضاً الكتاب الأول، لأنه ـ في اعتقاده ـ لا يحتوي إلا على تَعَقُّلاَت جدلية. وابن رشد يكره الجدل، لأنه لا يرقى إلى مستوى البرهان. وهذا ما يجعله يختلف كذلك عن أرسطو. فالجدل عند هذا الأخير هو منطق السياسة، وهو وسيلة للتربية المدنية. أما ابن رشد، فيلح عن إبعاد الجمهور (أو عامة الناس) عن السياسة وعن كل علم متصل بها. ويعتبر أن المناسب لهم هو العلوم الدينية البسيطة. وبما أنه ينبغي إبعاد الجمهور عن السياسة، فإن التربية السياسية مسألة لا تعني ابن رشد. ويعترف أبو الوليد، تماماً كأفلاطون وأرسطو، بأن نظام الديموقراطية (أو الشورى) ليس أمثل الأنظمة السياسية، ولكنه أقل الأنظمة الفاسدة فساداً. وهو نظام يضعه أرسطو بين الملكية والطغيانية: فالملكية عنده هي أحسن أنظمة الحكم([5])، ولكن كثيراً ما يحصل فيها أن يحكّم الملك عواطفه بدل القوانين. أما الطغيانية، فيرفضونها جميعاً. ويميل ابن رشد، تماماً كأفلاطون، إلى حكم النخبة، أي الفلاسفة. ولكنه يختلف عنه في ما يتعلق بتربية الناس. فابن رشد يدعو إلى التعامل مع عامة الناس بالأساليب الدينية دون محاولة ردهم إلى فلاسفة؛ أما أفلاطون، فيدعو الفلاسفة إلى تربية المواطنين، لأن الفلاسفة أدْرَى بما هو خير من عامة الناس([6]). ولكن ابن رشد يتفق مع أرسطو في إبعاد عامة الناس (أو ما يسميه أرسطو بالغوغاء) عن السياسة. ويتفق مع أفلاطون في إبعاد الفلاسفـة المُفسديـن، أي السفسطائيـة. والفلاسفة المفسدون ـ في نظر ابن رشد ـ هم المتكلمون. فهؤلاء يُضَلِّلُون عامة الناس، باعتبارهم يعتمدون منهج الجدل الذي لا يرقى إلى الحقائق البرهانية. فابن رشد يعتبر المتكلمين خطراً حقيقياً على صفاء الإسلام وعلى أمن الدولة. ويطلب من السلطات الحاكمة أن تمنع هؤلاء المتكلمين من توصيل معارفهم إلى عامة الناس.
يتضح مما تقدم أن ابن رشد لا يكتفي بشرح الفلاسفة اليونان، بل يتخذ من حين لآخر مبادرات تميزه عنهم. والواقع أن الإشكالية السياسية التي يَسْتَحْضرها ابن رشد في ذهنه والتي يعيشها في الواقع تختلف عن التي انطلق منها أرسطو وأفلاطون. فبالرغم من كون ابن رشد يأخذ برأي أفلاطون في اعتبار المدينة محكومة من طرف الفلاسفة([7])، فإن هؤلاء الفلاسفة عند ابن رشد غير ملحدين. فهم جميعاً يؤمنون بالله وبنبوة محمد وبإعجازية القرآن. أضف إلى ذلك أن ابن رشد يفترض أن الشريعة الإسلامية تتضمن تعاليم تتجاوز نواميس أفلاطون، لأن هذه الأخيرة مجرد تعاليم وضعية.
من كل هذا يمكن أن نستنتج أن ابن رشد لم يقلد لا أفلاطون ولا أرسطو في مجال السياسة، بل وظّف أقوالهما في هذا الميدان لتتناسب مع الشريعة الإسلامية وصاغ من كل ذلك موقفاً شخصياً يختلف عن موقفي أستاذيه اليونانيين. ولكنه، بالرغم من ذلك، لم يتمكن من بناء نظرية في السياسة متميزة.
الأسس الفسلفية للرشدانية اللاتينية
الرشدانية اللاتينية هي نزعة فلسفية انتشرت بالغرب اللاتيني في الفترة المحصورة بين ق 13 و 17م، وانطلقت من الاعتبار القائل بأن فلسفة ابن رشد تُمثل أحسن الشروح الفلسفية لأرسطو ويمثلان مجتمعين الحقيقة بعينها. لقد انتشر بين الرشدانيين اللاتين قولهم: Aristotelis doctrina est summa veritas. نُنَبِّه هنا إلى أننا نتبنّى مصطلح »الرشدانية« للإحالة على نزعة فلسفية، وذلك لتمييزها عن »الرشدية« باعتبار هذه الأخيرة مجرد صفة أو نعت وليس اسماً لمذهب أو نزعة. ظهرت هذه النزعة عند اليهود وعند المسيحيين، ولم تظهر عند المسلمين. مَثَّلها عند اليهود إسحاق البلاق (Isaac Albalaq: ق 13 م) وليفي بن غرسون (Levi Ben Garson: ق 13 ـ 14 م) وموسى النربوني (Moïse de Narbone: ق 13 ـ 14 م) وغيرهم. أما عند المسيحيين، فللرشدانية تاريخ طويل بدأ مع نشأة الجامعة الفرنسية بباريز خلال القرن 13 م ومع ترجمات أعمال ابن رشد التي قام بها ميكائيل سكوت بين 1225 م و 1235 م. وقد وصلت هذه الترجمات إلى باريز بُعَيْد 1230 م. وهناك تشكلت النواة الأولى للرشدانية بين 1250 و 1270 م. وفي هذه الفترة بَدَأ أساتذة الجامعة الفرنسية يُحيلون على الترجمات اللاتينية لأعمال ابن رشد التي كانت عبارة عن شروح وتلاخيص لأعمال أرسطو. لكن سُرْعَان ما تنبه علماء اللاهوت (مثل ألْبِرْت الأكبر وطوما الأكويني وبونا فتتورا وغيرهم) إلى الخطورة التي تشكلها هذه الفلسفة على العقيدة المسيحية. ولهذا عمد البابا وممثلوه إلى منع مجموعة من الأطروحات نُسبت عن حق أو عن باطل إلى ابن رشد وأرسطو. ومن أهم هذه الأطروحات ما يلي:
ـ وحدة العقل الهيولاني بالنسبة للكائنات البشرية؛
ـ نفي خلود الروح واليوم الآخر؛
ـ قِدَمُ العالم المادي؛
ـ نفي العناية الإلهية.
هذه هي أهم الأسس الفلسفية للرشدانية اللا تينية، أُضِيفَ إليها فيما بعد مُكَوِّن آخر أساسي يتمثل في ازدواجية الحقيقة التي نسبت إليه، بالرغم من كون ابن رشد لم يَقُل بها. وبما أن انعكاسات هذه الأطروحة على المجال السياسي القروسطوي أساسية، فلابد من أن نتوقف عندها قليلاً.
يمكن صياغة أطروحة ازدواجية الحقيقة كما يلي: »من الممكن أن نحصل على نتيجتين متناقضتين وصادقتين في الوقت نفسه: الأولى عقلية، والثانية دينية«.
أيهما أسمى عند ابن رشد؟ هذه مسألة لا تزال قيد المناقشة ولا يمكن البتُّ فيها بشكل نهائي. صحيح أن ابن رشد يعترف بالحقيقة العقلية ويمجدها، ولكنه صحيح أيضاً أن فيلسوفنا يعترف بالحقيقة الدينية.
من المحتمل جداَ أن يكون ابن رشد قد وضع الحقيقة الفلسفية في قمة المعرفة البشرية. وهذا ما فعله القديس طوما الأكويني أيضاً. غير أن هذا الأخير يعترف صراحة أن الإيمان أكثر يقيناً من العقل. أما ابن رشد، فيترك الحكم معلقاً.
من الناحية الجغرافية، انتشرت الرشدانية أولاً في باريس خلال ق 13 م. ومن أبرز ممثليها آنئذ سيجي البرابنتي (Siger de Brabant) وبوويتيوس الداسي (Boèce de Dacie). ألف هذا الأخير كتاباً تحت عنوان "الخير الأسمى" (De Summa bona) فيه يمكن التعرف إلى رشدانيته: فالعقل عنده هو الذي يضمن السعادة، لأن معرفة الحقيقة العقلية هي مصدر السعادة. والكتاب كله عبارة عن إشادة بالممارسة العقلية المحض([8]).
انتقلت الرشدانية إلى جامعة بادوفا بإيطاليا، وهناك مثلها الكاتب والشاعر المعروف دانتي (Dante) ومارسيليو البادوني (Marsile de Padoue) ويوحنا اليندوني (Jean de Jandun) وتَاديو البارمي (Toddeo da Parma) وغيرهم. ثم في القرن 15 م بإيطاليا نفسها ظهر رُشدانيون آخرون مثل: Nichola Vimias وبولس البندقي (Paul de Venise) وأغوتينو نيفو (Agotino Nifo) ثم بعدهم، في ق 16 م، ظهر Lacopo Zabarella، وهو فيزيائي و Marcontoni Zimara وغيرهم.
يتبين من كل هذا أن الرشدانية غزت المراكز الثقافية القروسطوية بأوروبا وساهمت في فشل الثقافة السكولائية التي دشنها القديس أوغسطينوس ودافع عنها القديس طوما الأكويني والقديس ألبرت الأكبر وغيرهما. ويتبين من هذا أيضاً أن الرشدانية أثرت في كل الأذواق. لهذا لا ينبغي أن ننتظر نشأة رشدانية واحدة مضبوطة المعالم وملتزمة بكل أفكار ابن رشد. بل إن الرشدانية اللاتينية هي تاريخ أفكار ليست لابن رشد وحده. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل بعض الباحثين الغربيين (مثل Steenberghen و Jeaneau و Renan) يرفضون تسمية »الرشدانية اللا تينية«. بل من بين هؤلاء (رينان مثلاً) من يرفض حتى التسمية »فلسفة إسلامية«([9]). يؤكد Steenberghen أنه لم توجد قط مدرسة رشدانية لاتينية خلال القرن 13 م. وليس هناك تلامذة لابن رشد في الغرب المسيحي تَبَنَّوا كل مذهبه. بل إن سيجي البرابنتي (Siger de Brabant)، الذي يُعتبر من كبار رواد الرشدانية المسيحية، لم يُحل على ابن رشد إلا مرتين، وذلك في كتابه De anima intellectiva([10]). ولم يقدم سيجي البرابنتي نفسه على أنه رُشْدَانِيّ قط، ولم يُفهم قط من معاصريه أنه رشداني. وهكذا يستنتج Steenberghen في مقال له تحت عنوان »الرشدانية اللاتينية في ق 13 م« (بالفرنسية) أنه لا توجد مدرسة رشدانية ولا يوجد رشدانيون تَبَنَّوا فلسفة ابن رشد في مجموعها. لهذا، في اعتقاد Steenberghen، لا يمكن الحديث عن رشدانية لاتينية ولا عن أثر ابن رشد في اللاتين!
يبدو أن في موقف هذا الباحث شيئاً من التعسف. فكيف يفسر قولَ يوحنا اليندوني مثلاً بأن هذا الأخير يرغب لا في أن يكون تلميذاً لابن رشد وأرسطو فقط، بل أن يكون قرداً (Singe) لهما. فابن رشد بالنسبة ليوحنا، وعلى حد قوله: Perfectissimus et gloriosissimus Philosophicae veritatis amicus et defensor. ولقد تبنى الموقف نفسه كثير من الرشدانيين الإيطاليين حتى القرن 17 م. والواقع أن الذي أُخِذَ عن ابن رشد ليس هو كل فلسفته، وإنما فقط روحها التي تتمثل في صبغتها العقلانية. وهذا وحده يكفي للحديث عن رشدانية فلسفية وعن انعكاساتها في الميدان السياسي.
الانعكاسات السياسية للرشدانية اللاتينية
بعد نُضْج النظريات الفلسفية التي تبناها الرشدانيون الفلاسفة، وخاصة حول العقل والمادة والخلق، أدت تلك النظريات إلى ظهور تطبيقات لها في ميدان السياسة. ومع الأسف الشديد، لم يتم الاهتمام حتى الآن بالجانب السياسي للرشدانية اللاتينية، باستثناء بعض الإشارات العابرة من حين لآخر في الكتب التي تؤرخ للفلسفة القروسطوية. ومن الموسف كذلك أن كبار بعض المتخصصين في الرشدانية، مثل رينان، أهملوا تمام الإهمال الجانب السياسي لهذه النزعة. وبالرغم من ذلك، فقد كان للرشدانية اللاتينية، أثناء القرنين 14 و 15 الميلاديين، صبغة ثورية لأنها قَلَبَتْ كل مفاهيم الكنيسة.
تَمَيَّز الوضع السياسي القروسطوي بأوروبا بميزة خاصة تمثلت في الصراع القائم بين البابا بما هو سلطة دينية والإمبراطور أو الملك بما هو سلطة دنيوية. وقبل ظهور الرشدانية السياسية كانت التيوقراطية تشغل كل الساحة السياسية.
يمكن إرجاع الأسس الفلسفية للتيوقراطية المسيحية إلى ما سُمِّي بالأُوغوسطينانية (Augustinisme) نسبة إلى القديس المغاربي أوغسطينوس (ق 14 م). ألف هذا الأخير كتاباً تحت عنوان "المدينة الإلهية" (De civitate Dei)، يدافع فيه عن تيبوقراطية بابوية تتمثل في سمو سلطة البابا على المستويين الديني والدنيوي على سلطة الملك أو الإمبراطور([11]). ويُعتر البعد الروحي في هذه المدينة أساسَ كل شيء. أما البعد الدنيوي فيها، فليس له إلا دور ثانوي. ومن الممكن أن توجد الدولة إلى جانب الكنيسة، ولكن لابد للأولى من أن تبقى في خدمة الثانية وأن تكون السلطة التي يتمتع بها الإمبراطور مِنْحَةً من الكنيسة وأن مصدر كل سلطة على الإطلاق هو الله.
بالإضافة إلى المدينة الإلهية الأوغسطينية، كانت هناك مدينة المؤمنين التي تصورها روجر بيكون في كتابه Opus Tertium، حيث النص الديني هو القانون الأسمى([12]). والعلوم بهذه المدينة متراتبة تتلقى الدنيا منها مبادئها من العليا، وأعلاها هو الوحي؛ أما الفلسفة، فلا تصلح إلا لاستخلاص الحكمة من النصوص المقدسة. ويكون سكان هذه المدينة مُتَّحدين تحت سلطة البابا. ويتصور بيكون العالم كله بأنه ممثِّلٌ لهذه المدينة ومحتَضِنٌ لمجتمع وحيد تَتَّحِدُ فيه كل الأمم تحت ظل البابا. ففي هذه المدينة ـ يقول بيكون ـ »سوف يدخل اليونان تحت طاعة الكنيسة وسوف يعتنق أغلب الرومان المسيحية. أما العرب والمسلمون، فسوف يُدَمَّرون« (Op. Tert. XXXIV). في هذه المدينة تَتَرَكَّز السلطة بيد رجال الدين المثقفين، أي علماء اللاهوت. وهذا نموذج من نماذج الحكم التيوقراطي الذي تخضع فيه كل مكونات المجتمع لسلطة البابا ويكون فيه النص المقدس هو الدستور. وهذا مناف تماماً لما تصوره ابن رشد، باعتبار أن هذا الأخير يرفض تدخل المتكلمين ورجال الدين في السياسة. وقد استغل أعداء التيوقراطية المسيحيون هذا الفصل بين الفكر الفلسفي والفكر الديني ليترجموه إلى فصل بين الكنيسة والدولة أو بين الفكر العقلاني واللاهوت.
كانت هناك محاولات لتكييف الرشدانية مع العقيدة المسيحية ومع النزعة الأوغسطِينَانية ومع النزعة الأوكمانية، وكان من المفروض أن تتحول الرشدانية إلى أوكمانية، ولكن هذا لم يحصل. وبالرغم من مضايقة الرشدانية للأوغسطينانية، فإن هذه الأخيرة واصلت تطورها على يد طوما الأكويني ويوحنا سكوت (Jean Scot) الذي مزج أرسطو بأوغسطينوس لخدمة المسيحية. وازدهرت الأوغسطينانية على الخصوص بفرنسا خلال القرن 17 م، حيث أدّت دوراً أساسياً في تطوير النزعة الديكارتية في صيغتها المالبرانشية. واستمر انتعاش هذا المذهب حتى خلال ق 18 م.
المشكل الأساسي الذي طُرح بأوروبا خلال القرون الوسطى يتمثل في معرفة موطن الحقيقة: هل هو النص المقدس أو العقل أو هما معاً. وهنا أدّت أطروحة ازدواجية الحقيقة المنسوبة لابن رشد دورها السياسي. فأعداء الكنيسة لا يعترفون إلا بالحقيقة العقلية، أو يعترفون بهما معاً ولكن يُرَجّحون الحقيقة العقلية. وهذا هو موقف يُوحَنَّا اليندولي الذي اكتسبت الرشدانية معه صبغة سياسية محضاً. فهو يعترف بخلود الحركة والعالم وينكر الحياة الأُخروية ويعادل بين نتائج العقل والتجربة والنتائج الفلسفية التي توصل إليها ابن رشد ولا يُخفي دفاعه عن هذا الأخير وعداءه للقديس طوما الأكويني. يبدو، من خلال انطباعات يوحنا اليندولي حول ابن رشد، أن الذي أعجب الأوروبيين في أبي الوليد هو عقلانيته ومنهجه في البحث والتفكير الذي يعتمد على التناول العقلي والبرهان.
وفي زمن يوحنا نفسه (أي في ق 14 م) ظهر مارسيليو البادوفي المعروف بميوله للرشدانية وباستغلاله لأفكار ابن رشد في المجال السياسي، وخاصة أطروحة الفصل بين العقل والإيمان الذي أصبح فصلاً بين الروحي والدنيوي، بين الكنيسة والدولة. وهكذا يمكن اعتبار كتاب Defensor Pacis (1324 ) لمارسيليو مثالاً حياً لتطبيق الرشدانية في ميدان السياسة. في هذا الكتاب يميز المؤلف بين شكلين من الحياة: الحياة الدنيوية التي يتولى أمْرَهَا الملوك حسب التعاليم الفلسفية، والحياة الأُخروية التي يتولّى أمرها رجال الدين وعلى رأسهم البابا، بناء على التعاليم الواردة في النصوص المقدسة. وهنا يتبين أن مارسيليو لا ينكر دور الدين في المجتمع تماماً كما هو حال ابن رشد. لكنه بالرغم من قوله بالحياة الأخروية، فهو يعترف أنها غير قابلة للبرهنة. فهو يقبلها فقط، نظراً للدور الاجتماعي الذي يؤديه الإيمان بها في صفوف عامة الناس: فهي تدفع المواطنين إلى التزام الهدوء واحترام الأخلاق. ومن هنا يتضح أن اعتراف مارسيليو برجال الدين لا يعني أن لديهم الحق في التدخل في السلطة. بل إن دورهم هو مجرد دور استشاري. لقد دافع مارسيليو عن فصل الدين عن الدولة وناضل من أجل عَزْل الكنيسة عن الشؤون العامة للناس؛ لأن المدينة قادرة على إدارة نفسها بنفسها بناء على المجهودات العقلية التي يبذلها الفلاسفة. وانطلاقاً من هذه الفترة، أصبح الفصل بين الكنيسة والدولة أمراً واقعاً.
قام أليغييري دانتي (Alighieri Dante) هو أيضاً بالتحويل نفسه: تحويل الأفكار الرشدية من الفلسفة إلى السياسة. ففي كتاب له تحت عنوان De Monarchia وَظَّف الكاتب أفكار ابن رشد لتحقيق مَلَكِيَّة كَوْنية. وفي كتابه Divina comedia يتبين أن دانتي تأثر كثيراً بأرسطو وبشارِحه ابن رشد. وفيه أيضاً يدعو إلى فصل الدين عن الدولة. وفي الكتابين معاً يحلل دانتي مشكلتين أساسيتين: ضرورة وجود إمبراطور واحد لتحقيق السعادة الدنيوية، ثم ضرورة استقلال السلطة الدينية عن السلطة الدنيوية. ويصرح دانتي أن احترام حقوق الإنسان هو نفسه احترام للإرادة الإلهية. ولا ينبغي للإمبراطور أن يستمد سلطته من البابا. وينتهي دانتي إلى القول بأن الفلسفة هي الوسيلة الوحيدة إلى تحقيق السعادة الدنيوية. أما اللاهوت، فهو وسيلة لتحقيق السعادة الأخروية. وهنا يختلف دانتي عن باقي الرشدانيين في كونه يعترف باليوم الآخِر. غير أنه، في كتابه De Monarchia، يُدخل البابا إلى جهنم ويدخل الرشداني سيجي البرابنتي إلى الجنة.
لا داعي للاستمرار في إحصاء الرشدانيين واحداً واحداً. يكفي القول بأن الموقف نفسه تبناه كثير من الفلاسفة المسيحيين ذكرنا أهمهم. ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى مثل الفيلسوف والطبيب البادوفي Pietro d'Abano والفيلسوف الفلكي البارمي Taddeo de Parme صاحب كتاب Questiones de anima والمنطقي Angelo d'Arezzo وغيرهم.
بالإضافة إلى هؤلاء الرشدانيين الإيطاليين الذين تَبَنَّوا موقفاً جُحُودِيّاً متطرفاً للنيل من الكنيسة، ظهرت بابريطانيا »الأُوكمانية السياسية« التي سعت بدورها إلى فصل السلطة الدينية عن الفلسفة على الطريقة الرشدانية. وهذا لا يعني أن كَيوم الأوكامي (ق 14 م) لا يعترف بسلطة دينية، بل على العكس من ذلك. فالله عنده هو الذي خلق الطبيعة وقوانينها، ولكنه لا يتدخل في سيرها كما لا ينبغي أن يتدخل في سير المجتمعات المدنية. وانطلاقاً من الافتراض الفلسفي الذي ورثه كَيوم الأوكامي عن ابن رشد والذي لا يعترف بوجود الكليات، يؤكد كَيوم أن الموجود الحق، على المستوى السياسي، هو الأشخاص. وليس هناك جسم اجتماعي، بل هناك تجمع (Congrecatio) لوحدات متمايزة. وبناء على هذا المنظور، فإن السلطة السياسية مرتبطة باتفاق الناس. وكل المؤسسات السياسية قائمة على القابلية للتغيّر. يقوم كَيوم الأوكامي ضد الكنيسة ويعتبر الإمبراطور هو السلطة الوحيدة المعقولة. فالله لم يكلف السلطة الدينية بتطبيق القوانين الوضعية. ويُعْتَبَرُ كَيوم هذا من كبار الذين دافعوا عن الفِكْر العلماني في القرون الوسطى، لأنه كان ضد التيوقراطية البابوية.
الامتدادات الحديثة للرشدانية السياسية
منذ ظهور الرشدانية في الغرب المسيحي، أخذ الموقف المؤيد للسلطة المدنيّة يزداد انتصاراً على الموقف المؤيد للدين. ولقد تحقق هذا بشكل أوضح مع ظهور مدونة حقوق الإنسان، خاصة في بندها الثالث الذي يقول: »مبدأ كل سيادة (أو سلطة) يكمن فقط في الأمـة (أو الوطن). ولا يمكن لأي إنسان أن يمارس سلطة تخرج عن اختصاصه«. أضف إلى ذلك أن مدونة حقوق الإنسان سعت إلى إبدال إشكالية العلاقة بين الديني والدنيوي بإشكالية الدين المدني. وفي هذا الإطار كان روسو يحاول الدفاع بحماس عن فكرة التسامح الديني وحرية التدين. ولقد نجحت الولايات المتحدة في فصل الدين عن الدولة وفي حرية التدين منذ 1791 م، بينما لم تستطع فرنسا أن تخلُق جواً ملائماً لحرية التدين، لهذا اخترعت فكرة اللائكية.
يمكن إذن اعتبار حركة حقوق الإنسان والنزعة اللائكية في العصر الحديث وكذلك حركة الأنوار امتداداً للرشدانية السياسية القروسطوية.
من الملاحظ أيضاً أن العالم الإسلامي لم يستفد لا من العقلانية الرشدية ولا من امتداداتها السياسية، سواء في القرون الوسطى أو في العصر الحديث. لقد توافرت في العالم الإسلامي القروسطوي كثير من العوامل الثقافية التي كان بإمكانها أن تغير من توجه الصراع على السلطة ليميل نحو استقلال الدنيوي عن الديني: لقد كان هناك فلاسفة مسلمون ابتداعيون، بل وأحياناً مُلحدون. لقد عبر إخوان الصفا عن ميلهم الواضح إلى أرسطو وأفلاطون أكثر من ميلهم إلى التقليد النبوي، واعتقدوا أنه ليس هناك ديانة وحيدة تملك الحقيقة. أما الفارابي، فقد مجد العقل واعتبره كافياً لضمان سعادة الإنسان. وصارع ابن رشد المتكلمين والفقهاء طيلة حياته. بل حتى الشعراء، مثل المتنبي وأبي العلاء المعري، دافعوا عن العقلانية بوسائلهم الخاصة. ولكن بالرغم من ذلك، كانت الغَلبة لسلطة الفقهاء. وهذا عكس ما حصل في العالم المسيحي القروسطوي.


المصادر المراجع

بالعربية
أرسطو، في السياسة، نقله من الأصل اليوناني إلى العربية وقدّم له وعلق عليه: الآب أوغسطينس برباره البولسي، الطبعة الثانية، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، 1980.
ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العِبْرية أحمد شحلان، وقدّم له محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998. انظر هذا المقال، هامش 1.
أمليل، علي، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان.
الخضيري، زينب، أثر فلسفة ابن رشد في العصور الوسطى، بيروت، لبنان.
بالأجنبية





    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 01:42 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd