الرئيسية | الصحيفة | خدمات الإستضافة | مركز الملفات | الحركة الانتقالية | قوانين المنتدى | أعلن لدينا | اتصل بنا |

أفراح بن جدي - 0528861033 voiture d'occasion au Maroc
educpress
للتوصل بجديد الموقع أدخل بريدك الإلكتروني ثم فعل اشتراكك من علبة رسائلك :

فعاليات صيف 2011 على منتديات الأستاذ : مسابقة استوقفتني آية | ورشة : نحو مفهوم أمثل للزواج

العودة   منتديات الأستاذ التعليمية التربوية المغربية : فريق واحد لتعليم رائد > المنتديات العامة والشاملة > بنك الاستاذ للمعلومات العامة > سير و شخصيات



إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
قديم 2015-07-09, 01:08 رقم المشاركة : 11
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش يتذكر: وصفنا ضابط جزائري بـ"عبيد الحسن الثاني"


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الأربعاء 08 يوليوز 2015 - 23:00
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(11)
طمأننا بن هوشات. أخبرنا أن الرئيس بومدين لا علم له بهذا الفيلم، ولا بالجهة التي تُصَوّره ولا الغرض منه. أقر أننا أسرى حرب، وأنه ليس من حق شخص ما أن يجبرنا على تحية رمز ما. ثم وعدنا أن تتحسن أوضاعنا في قريب الأيام.
وعد الحر دين عليه، لكن بن هوشات ــ مستشار الرئيس ــ ليس حُرّا على ما يبدو، فهو لم يف بوعده، فظروفنا لم تتغير رغم تصديقنا لوعوده. انتظرنا طويلا أن تهب بعض نسائم التغيير، وها قد هبت مع بداية ماي من نفس السنة، لكنها لم تكن كما ننتظرها. قاموا بنقل الأسرى الضباط إلى معتقلات سرية تحت أرضية بمدينة البليدة. بعد أسبوعين تم نقلنا أيضا إلى معتقل آخر يوجد بالجلفة. يرأس المعتقل جزائري برتبة أجودان شاف، سمعناه كثيرا يقول للأسرى:
ـ لا تحسبوا رْواحكُوم عند دولة مسلمة، حسبوا رْواحكُوم عند اليهود.
لا يبعد هذا المعتقل كثيرا عن الحدود مع تونس. لكنني سمعت أن الرحل يتنقلون إلى تونس عبر الجمال ويلزمهم في ذلك أسبوعين من المشي. فكرة الهرب تظل دوما في ذهن كل سجين، لا تغادره حتى في نومه، لكن كيف يهرب مريض لا يستطيع المشي، وما يزال يتداوى يوميا من الأمراض المزمنة التي نخرت جسده.
كان المعتقل واسعا ويمتدّ على أراض تصلح للفلاحة، وليس لسجن رجال لا ذنب لهم سوى الدفاع عن صحرائهم، جزء من بلادهم.
في رمضان تلك السنة تعرضنا لتسمم غذائي، لم نعرف مصدر السم الذي ازدرده الجميع في طعام هذا الشهر الفضيل، شمل التسمم 184 فردا، و84 منهم كانوا بين الحياة والموت. حضر طبيب من العاصمة على متن مروحية عسكرية، وبعد أن شخّص بعض الحالات أقل نفس الطائرة ليجلب الدواء ويعود.
ما أن بدأنا نألف هذا المكان ونذعن لأقدارنا بداخله، حتى تم ترحيلنا من جديد نحو قاعدة بوغار، بالمديّة. نفس المكان الذي كنا فيه آخر مرة، كما تمت إعادة الضباط أيضا.
توفي الرئيس بومدين، جاء إلينا بن هوشات بعد أيام فعلّق:
ـ" عندما مات السيد الرئيس، أخْبَرَنا نُظَراؤنا المغاربة أنهم سيرسلون وفدا من الرباط لتعزيتنا في وفاة الرئيس، فقلنا للمغرب أن يحتفظ بتعازيه لنفسه. إذا مات جزائري فللجزائر أبناء كثر. لقد قلنا هذا لأنه عندما رحل السيد الرئيس، خرج سكان وجدة نحو الحدود للاحتفال والفرح. "
تقلّد الشاذلي بنجديد مقاليد الحكم في الجزائر وضاعف في العمليات الحربية والهجومية على الحدود. مرة أدخلوا علينا 100 أسير، قالوا لنا بأنهم اعتقلوهم في عمليتان فقط، بالسمارة وبئر أنزران، وأغلب المعتقلين يمشون على أربعة!
بعد أيام أخذوا الضباط منا وأعادوهم إلى حفر الرابوني.
انتقوا الضباط وتم نقلهم إلى تلك الحفر، وبقينا هناك نواجه قدرنا بالصبر والإيمان بالمكتوب، نُمنّي النفس أن يأتي يوم نعود فيه إلى أوطاننا، قرانا النائية التي تركناها هادئة تحت الجبال، أهلنا الذي لا نعلم عنهم أي شيء، من مات فيهم ومن بقي حيا، وهل مازالوا على العهد، أم أنهم تنكروا لنا وصرنا نسيا منسيا.
في إحدى ليالي سنة 79، جاءنا مسئول كبير لا أذكر اسمه. طلب من رئيس المعتقل أن يجمع الأسرى ليخطب فيهم:
ـ "لقد قضيتم هنا مدة طويلة، وقد حان وقت فرجكم. سنكَوّنكم وندرّبكم بشكل جيد، ثم بعد ذلك سوف نطلق سراحكم لتذهبوا للمغرب، شريطة أن تشتغلوا لصالح الجزائر ولصالحكم أيضا".
تحدث طويلا عن مزايا هذا الاقتراح الذي جاء به، بينما خاب أملنا في إفراج حقيقي. صمت كل الأسرى خائبين. ظل ينتظر من يسأله سؤالا أو يدلي بمقترح ما، فساد صمت غريب.
تدخل عسكري برتبة قبطان كان صحبته، وكان مسئولا عن المعتقل قبل ثلاث سنوات:
ــ لا تزعج نفسك مع هؤلاء، لقد خبرناهم، إنهم جبناء. ليسوا سوى عبيد الحسن الثاني، ولا يعرفون سوى شعار الله الوطن الملك.
وقتها صفقنا، ثم غادر دون توديع.
من الصعب أن أذكر كل تفاصيل أيامنا الرتيبة، كل الأيام متشابهة لا شيء يميزها عن غيرها سوى عراك بين سجينين أو زيارة مسئول أو موت أسير، ودون ذلك فأيامنا متشابهة كالتوائم.
لكن خططهم في استعمالنا لقضاء مآربهم لم تضمحل. كان لهم هذا الطموح منذ مدة. حتى في سنة 1986 زارنا مسئول كبير يدعى روش، فقال لنا:
ـ لقد تغيرتم الآن كثيرا، أغلبكم قضى 10 سنوات في الجزائر. تغيرت لهجتكم، تبدل لونكم وزاد عمركم عشر سنوات، فهذه فرصتكم للنجاة وتحقيق مستقبلكم وتعويض ما ضاع منكم كل هذه السنون. الحسن الثاني لا يريدكم ولا يعترف بكم، فلا تضيعوا عمركم في انتظار الهباء. هذه فرصتكم لو كنتم أذكياء، سنرحلكم لبلادكم، فتشتغلون لتأمين مستقبلكم وفي نفس الوقت تشتغلون لحساب الجزائر. من وافق منكم فليخبرني، ومن لديه سؤال عن كيفية تطبيق هذا فما عليه سوى أن يتفضل.
رفع بباهي سليمان يده فأشار له أن يقف ويتحدث.
ــ شوف أمُونْ ليُوتْنَانْ. نحن عسكر مغاربة، لا نعرف شيئا في السياسة. نحن لا نعرف سوى الله الوطن الملك، والسلام عليكم ورحمة الله.
صفق عليه الليوتنان روش، وانخرطنا في موجة التصفيق. رغم أنه كان يبتسم فابتسامته لم تستطع إخفاء غضبه الشديد. أمرنا أن نكف عن التصفيق، ولما ساد الهدوء، طلب منه أن يأتي للوسط ويقف، ثم خاطبنا:
ـ هذا هو الرجل الوحيد بينكم.
لقد أراد بتصرفه ذاك أن يتعرف على ملامحه أكثر، وأن يتعرف عليه الحراس، حتى إذا ما قال لهم أن يأتوه بذلك الرجل المغربي الوحيد، يأتونه بسليمان بباهي. أمر الحراس بعد ذلك أن يعيدوا جميع الأسرى إلى غرفهم الخاصة، وأَسَرّ لرئيس المحبس كلاما في أذنه. في الليل كنت أخمن أن يأتوا لأخذ رفيقنا سليمان، فلا يمكن أن يتجرع روش تلك الإهانة أمام الأسرى ويصمت عنها، لكنهم لم يأتوا إلى أخذه في الليل.
في الصباح بعد أن تناول الجميع وجبة الفطور أخذوه إلى وجهة مجهولة. ليس بمقدرنا مواجهتهم أو منعهم من أخذه، هل يستطيع المسجون أن يغير قرارات سجانه، إنها كالأقدار لا نطلب ردها لكننا نتمنى اللطف فيها. صفّدوه ثم أخذوه، أركبوه سيارة مدنية وذهبوا به بعيدا. اختفى أزيد من أسبوعين حتى اعتقدنا أنهم قتلوه. تماما كما اعتقد رفاقي يومئذ أني متّ عندما نقلتُ للمستشفى، حتى أنني عندما عدت وجدت عشراني قد تصدّقوا بفراشي وأغطيتي لأسير جديد، فعلوا ذلك لعل تلك الصدقة تصلني هناك وتعينني يوم الحشر.
وكم ابتهلنا لبباهي سليمان بدعوات بالرحمة وأن يتقبله الله مع الشهداء الذين رحلوا في هذا المكان وغيره. ذات يوم أعادوه ضامرا لا يقوى على الحركة. كومة من العظام التي تجمعها جلود سوداء متقيحة. أخبرنا أنهم سجنوه وحده في زنزانة تحت أرضية في البليدة، معتقل من طابقين تحت أرضيين يوجد أسفل إدارة ليتَاماجُور. رموه هناك كشيء بالٍ دون طعام ولا شراب، فراشه أرضية الزنزانة وغطاؤه سقفها.
وتأبى روحه المتمردة سوى أن تلتصق بجسده، ويأبى قلبه الخمود، لعله يوما ما يحظى بتحقيق حلمه ــ حلمنا جميعا ــ أن نعود إلى أوطاننا وأهلنا، فهل ما يتمناه المرء يدركه؟






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-10, 22:19 رقم المشاركة : 12
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: آمال أسرى مغاربة بسجون الجزائر تحولت إلى انتحارات


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الجمعة 10 يوليوز 2015 - 21:50
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(12)
يوزعون علينا كل يوم أربع سجائر لكل أسير مدخن، سيجارة من نوع "مجاهد". مع السجائر علبة أعواد ثقاب وحيدة لإشعال سجائر جميع الأسرى ، يتركونها عند بَّا بوعزة، وهو أسير مثلنا. أمام بّا بوعزة حلان اثنان، إما أن يوزع أعواد الثقاب على الأسرى، وستكون النتيجة عود ثقاب وحيد لكل 8 أسرى أو أكثر، وإما أن يجد طريقة لتدبير شعلة لكل سجائر "مجاهد".
الحاجة أمُّ الاختراع، مقولة تجلت مع بّا بوعزة، إذ سمح له الحراس بالاحتفاظ بشفرة حلاقة، وكان يستعملها لتقسيم عود كبريت واحد بدقة متناهية إلى أربعة. بدقة لن يُصدّقها الكثيرون كنا نستعمل عود كبريت أربع مرات! كما بدأنا بترتيب مواعيد شبه منظمة لإشعال السجائر لأكبر عدد من المدخنين. عندما تزورنا وفود من صحافيين وبعثات لا نعرفها ندخن أكثر، وقتما يودون توديعنا نطلب منهم أن يتركوا لنا ما تبقى لديهم من سجائر، في الغالب تكون من النوع الجيد الذي لا يشبه " مجاهد".
سنوات طويلة ونحن على ذلك الحال، إلى فبراير من سنة 87، إذ أقلعت بصفة نهائية عن شرب هذه السجائر، اتخذت هذا القرار، وصنت العهد إلى يومنا هذا. ولم أعد أنتظر حصتي اليومية من السجائر، وكلما رأيت بّا بوعزة منهمكا في تدبير شعلة يومية للأسرى أرفع أكف الضراعة أن يتمكن زملائي من التخلص من التدخين كما تخلصت منه، وأن يخلّصنا القدير جميعا من ذل هذا الأسر..
في تلك السنة تزامن شهر رمضان مع شهر ماي. رمضان كئيب يشبه كافة الرمضانات العشرة التي قضيتها في الأسر في العشر سنوات الأخيرة. صوم بالنهار والليل، ومحاولة لخلق أجواء صيام وإفطار تشبه أجواء البلد ولو في خيال كل أسير، كمحاولة يائسة لنسيان ذل الأسر والبعد عن الأهل.
قبل ليلة القدر بيوم واحد جاء قرار بإطلاق 150 أسيرا دفعة واحدة. كانوا من رفاقي، ولم يكن هناك من وسيط في الإفراج عنهم سوى اتفاق بين المغرب والجزائر لا نعرف بنوده. كل ما نعرفه أن 150 شخصا سينالون حريتهم أخيرا.
لا أعرف كيف اختاروهم، بأي معيار، فقد كان المفرج عنهم أو المرشحون لذلك خليط غير متجانس من الأسرى. أغلب الظن أن ذلك تم عشوائيا، كل ما أعرفه أنني لم أكن ضمن الذين نالوا الحرية.
أعرف أن الحسد غير مباح، لكني تمنيت لو كنت ضمن المفرج عنهم، لقد قضيت الآن إحدى عشر سنة في الأسر، ومعي من سبقني لذل الأسر ننتظر معا فرجا من السماء.
ودّعنا رفاقنا الذين ركبوا الحافلات، وإن لم نكن بينهم فعلى الأقل سينقلون رسالتنا لدولتنا، ولأهلنا، بأننا هنا منسيون ننتظر انصافا.
لما بلغوا تلمسان أنزلوا منهم 36 شخصا هكذا اعتباطا، وعوضوهم بـ36 آخر تم أسرهم سابقا على مشارف بشّار، عندما اصطدم الجيش المغربي بالجيش الجزائري. أعادوا الـ36 أسيرا غير المحظوظين إلى معتقل صغير لا يبعد عنا كثيرا.
طوال تلك الأيام التي تلت إطلاق سراح رفاقنا شعرت بحزن شديد مختلط باليأس. لقد فرحت لتحررهم لكني تمنيت أن أكون ضمن الذين عانقوا الحرية. ليومين لم أذق طعم النوم وما ابتلعت طعاما.
مر عيد الفطر كمأتم في دوار. لا نتبارك فيه العيد بل نعزي بعضنا البعض. وجاء عيد الأضحى أكثر كآبة.
أذكر أن حراس المعتقل سمحوا لنا ليلة العيد بالمبيت في ساحة المعتقل عوض الغرف. كان الجو حارا، فالعيد تزامن مع أواخر يوليوز. حملت فراشي نحو الساحة واتكأت أتأمل القمر في السماء الصافية، تماما كما كان يسطع في قريتي البعيدة. أفكر في أمي التي لم ترني منذ 11 سنة، أعرف أنها وحدها في هذا الكون تتذكرني في هذه المناسبات الدينية الكبيرة. لاشك أن دمعة كبيرة الآن قد انفلتت منها وتدحرجت على خدها، تمسحها بطرف ثوبها وتواصل الحياة.
غدا هو العيد الكبير، تَافَاسْكَا بلغة قومي. كل المسافرين من أبناء الأرياف الذين يشتغلون في البناء والبستنة والأعمال الشاقة في المدن البعيدة قد عادوا إلى أعشاشهم على مثن حافلات مهترئة، وحده عْدّي ابنها لم يعد. للمرة العاشرة انتظرته أن يأتي دون أن تفقد الأمل، لعله يأتي ليذبح الخروف بنفسه ويشاركها الفرحة المؤجلة..
في السنوات الأولى التي تلت اختفائي وإن أخبروها مرارا أني توفيت، واستصدروا لي شهادة رسمية تثبت ذلك، فإن صوتا داخليا ما زال يوسوس لها بأني ما أزال على قيد الحياة. وكم مرة تراءت لها ملامحي من بعيد، كلما رأت رجلا طويلا يحمل حقيبة، تهرول ناحيته لعله يكون أنا، وعندما تكون منه قاب قوسين أو أدنى تنجلي الملامح وتتأكد أنها كانت تطارد خيط بخار..
تأزمت نفسيتي بعد تلك الليلة، بعد أن غرقت في تذكراتي، والمصائب لا تأتي فرادى، فقد قاموا بعد أيام بتغير كل الحراس والسجانين. أفهموهم أننا لسنا أسرى حرب، بل إرهابيون تم القبض عليهم داخل الأراضي الجزائرية، وأننا اخترقنا حدودهم لتنفيذ عمليات هجومية. حتى الذين يتم نقلهم للاستشفاء في مستشفيات البلد يكتبون في ملفاتهم ذلك.
ساءت الأوضاع أكثر، كلما وقع سوء تفاهم بين أسيرين ولو نقاشا بسيطا، يأخذانهما معا للساحة ويضربانهما معا دون أن يتساءل السجّان: من الظالم ومن المظلوم؟
فكرنا في تنفيذ إضراب عن الطعام كما كنا نفعل من ذي قبل، لكنه لم يعد يؤتي أُكله. أفهمناهم بعد أن يئس الكثير منا أننا لا نطالبهم بتحريرنا أو تزويجنا، هذه أمور ليست بأيديهم وتحتاج قرارا سياسيا من أعلى سلطة في البلد. ما نريده الآن أن ننعم بطعام لائق، وشراب نقي، وتطبيب مستعجل والعيش في بيئة سليمة. لكن ردهم يكون صادما:
ـ أنتم إرهابيون جئتم لتخريب بلدنا، أما الأسرى فقد تمت مبادلتهم مع المغرب ولم يتبق هنا أسير واحد.
رباه من نكون نحن إذا لم نكن أسرى؟ لكن لمن تشرح وضعك، فالسجّان عبد مأمور، ولا يمكن بأي حال أن يصدق روايتنا ويكذب رواية رؤسائه.
عندما تقلد بوضياف مقاليد الحكم استبشرنا خيرا. يستحيل لرجل ذاق ويلات السجن أيام الاستعمار وبعد استقلال الجزائر، وعاش ردفا من الزمن في المغرب ألا يحس بمعاناتنا، نحن الذين نفني زهرة شبابنا بين حيطان غرف سجن بوغار.
ربما قد يأتي الخلاص. سمعناه في خطاب يقول أنه خلال شهرين لن يبقى أجنبي واحد في الجزائر، لكن وضعيتنا لم تسوّ رغم ذلك. الضباط وضباط الصف والجنود الذين يزوروننا مباشرة بعد حكم بوضياف كانت لهم نظرة أخرى وتعامل قاس. كانوا يتحدثون عن بوضياف الرئيس بنوع من الازدراء، يقولون لنا بأن ملككم أصبح بقدرة قادر يتحكم في الجزائر.
يقولون ذلك لأن الرئيس الجزائري قضى فترة مهمة بالمغرب، إذ كان يدير مصنعا للياجور بمدينة القنيطرة، وعلاقاته جيدة بالمغرب. وطوال الـ166 يوما التي قضاها محمد بوضياف رئيسا للجزائر لم تتغير أحوالنا للأحسن، بل ساءت.
لما بلغنا خبر اغتياله من طرف أحد حراسه الشخصيين في عنابة أواخر يونيو من سنة 1992، شعر الكثير منا باليأس، كمدمن قمار خسر ثروته ولعب بآخر ورقة له..
فكرة الهرب لا تغادر ذهن أي سجين، قد لا يحاول الهرب واقعيا لخوفه من القتل من حراس يقتلون الواحد كما لو داسوا على نملة، لكن الفكرة لا تغادر مخيلته، فعندما يخلو إلى نفسه يكتب سيناريوهات هربٍ في خاطره، كلها تكلل بالنجاح. يمنحه ذلك بعض الأمل، رغم أن الأمل الزائد في التحرر يؤدي بصاحبه للهلاك. أغلب من جنّ في السجون هم أشخاص تناولوا جرعات زائدة من دواء اسمه الأمل.
انتحر أسيران بعد تلك الأيام، طوال هذه المدة توفيّ 34 شخصا بأمراض مختلفة بمعتقل بوغار، وعلمت فيما بعد أنه توفي داخل المعتقلات كلها أزيد من 1448 سجينا.
تمر الأيام رتيبة بلا طعم، متشَابهة كبدلات العسكريين، إذ لا يميز أيامنا سوى أنين أسير أو موته.
نهاية 1993و بداية94 بدأت المنظمات بالمغرب وخارجه تتحدث عن الأسرى المغاربة القابعين في سجون الجزائر. عرفت فيما بعد أن المغرب أخبر منظمة الصليب الأحمر بتواجد أسرى مغاربة في قاعدة بوغار. وأن منظمة الصليب هاته، قد زارت عدة مرات نواحي هذه القاعدة العسكرية حيث نقيم نحن كأسرى، لكن سلطات الجزائر كانت لا تسمح لهم بالدخول، وتخبرهم أن هذه قاعدة عسكرية تجرى فيها التداريب وسكن العسكر والأسلحة والعتاد والذخيرة، ولا يسمح لأي كان ولوجها.
مباشرة بعد تلك المحاولات قامت سلطات المعتقل بأمر من الأعلى بعزل المقبوض عليهم في الحدود عن المقبوض عليهم في المعارك. جعلت هذه الفئة الأخيرة في معتقل صغير آخر، ثم قرروا إعادتنا إلى تيندوف، كان ذلك صباح 30 غشت من سنة 1994.
أخبرونا أن تيندوف ستكون مجرد محطة استراحة، لأننا سننال حريتنا أخيرا. تركنا كلّ ملابسنا القديمة هناك كما أمرونا، لم نأخذ سوى ما ارتدينا؛ قميص وسروال. لم نكن لنصدّق هذا الادعاء الكاذب بأننا سنتحرر أخيرا، لم تكن الأجواء ملائمة لأي إفراج، فالعلاقات المغربية الجزائرية متوترة بعد مقتل بوضياف، واسبانيا تميل جهة الجزائر في ذلك الوقت، مع ذلك فقد حاولنا تصديق هذه الكذبة اللذيذة، فهي تجعلنا نعيش وهم التحرر من ذل الأسر ولو في تخيلاتنا! سأذهب إلي بلدتي "النقوب" بعد 18 سنة من الغياب.
وكما توقعنا.. سلمونا من جديد للصحراويين بتندوف.






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-12, 22:32 رقم المشاركة : 13
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش يسرد تفاصيل العودة من بوغار الجزائرية إلى تندوف


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الأحد 12 يوليوز 2015 - 12:30
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(13)
كانت غايتهم من إيهامنا بنيل حريتنا تأمين الطريق، حتى لا يفكر أحدنا في الهرب أو الانتحار. أغلبنا لم يصدق أننا سننال الحرية، ونعود إلى قرانا المنسية. فئة قليلة منا صدّقت ذلك. أذكر أن عددنا كان 209، لكن سلطات المعتقل أخذت أسيرين منّا وضمتهم إلى مجموعة الأسرى المقبوض عليهم في الحدود. ولم تشفع لهما شهادتنا بأنهما معنا منذ البداية. احتجوا وصرخوا، لكن السجّان عزلهما عنّا، وانطلقنا بدونهما. لنكون بذلك قد تركنا في محبس قاعدة بوغار 54 أسيرا مغربيا. سأعرف فيما بعد أن الله أراد بهما خيرا، إذ رغم ما لحقهما من حيف وقتها، واعتقاد الكثير منا أننا سنتحرر وهما سيبقيان هناك مع أصحاب الحدود، فإن العكس هو الذي حدث. فقد أطلق سراحهما في دجنبر من سنة 95، بينما بقينا نحن ننتظر الفرج خمس سنوات إضافية.
تم تكديس207 أسيرا كالخرفان في شاحنات عسكرية. لا أذكر عددها بالضبط، لكن المسافة المقطوعة لم تكن طويلة جدا، إذ وصلنا مطارا عسكريا فتوقفت الشاحنات وأنزلونا. يوجد ذلك المطار العسكري في قاعدة يسمونها عين وسارة، هناك صعدنا الطائرة التي أقلّتنا نحو تندوف.
حطت الطائرة في أرض خلاء اتخذوها مطارا في ظهر الحمادة. كان الجو حارا، رياح الشرقي تلفح الوجوه. وجدنا هناك أربع شاحنات عسكرية جزائرية، لم نسترح ولو دقيقة، ركبنا تلك الشاحنات في اتجاه واد تتشابك فيه أشجار الطلح. نفر من عساكر البوليزاريو في انتظارنا في ذلك المكان، كانوا يعدون الشاي تحت شجرة طلح . نزلنا من تلك الشاحنات واتخذنا صفا طويلا كما أمرونا أن نفعل.
سمعت المسؤول الجزائري يقول لمسئول البوليساريو:
ـ نوض حسب الكلاب.
نهض وبدأ يُعِدُّ الأسرى. تبددت أحلام الذين صدقوا أننا بصدد العودة إلى الديار. استبدلت الحراسة الجزائرية بحراسة البوليزاريو، ولأول مرة في حياتي فكرت في الانتحار. رأيت صهريج وقود لا يبعد عنا كثيرا، فكرت أن آخذ شعلة من النار التي يعدون بها الشاي تحت الشجرة وأركض نحو الصهريج لأتخلص من هذا الذل. اقتربت من خزان الوقود فتعقبني حارس. ادعيت أني أرغب في التبول، لكنه بقي لصيقا بي، وأعادني لمجموعتي.
بعد أن غربت الشمس صعدنا إلى الشاحنات في اتجاه واد عوينت بالكرع، به مخيم يسمونه مخيم الداخلة، يبعد عن الرابوني ب195 كيلومتر في الجنوب الشرقي لتندوف.
وصلنا قبيل الفجر مشارف المخيم الذي نتغياه، وقفنا في انتظار شروق الشمس، ولم يسمح لنا بالنزول لقضاء حاجاتنا الطبيعية. في المخيم معتقَلَين اثنين، واحد أصغر مساحة يأوي سجناء تم أسرهم في السنوات المتأخرة في الصحراء، وآخر أكبر يضم مؤنا وذخيرة وعتادا عسكريا. قرروا إفراغه بعد مجيئنا ليكون سجنا لنا نحن الـ207 أسيرا القادمين من الجزائر.
قضينا اليوم كله دون طعام في انتظار أن يجدوا لنا مكانا لنسجن فيه! حتى غربت شمس اليوم الموالي اقتادونا كقطيع أغنام نحو حوض ماء يوجد في أرض فلاحية يحرثها الأسرى، أمرونا أن نشرب من الحوض ونغتسل منه. شربنا من الحوض المالح ثم عدنا نحو ما يسمونه "المركز".
في الليل تناولنا وجبة طعام من الأرز، ثم تكدسنا بعد ذلك للنوم دون أغطية ولا فراش ولا ملابس سوى القطعتين اللتان تحملهما أجسادنا. ولم يوزعوا علينا غطاءً واحد لكل أسير حتى قضينا أربعة أيام في ضيافتهم، تحت ذريعة استكمال الاجراءَات الإدارية. أما تلك الملابس التي جئنا بها من الجزائر فإننا لم ننل غيرها حتى مرت علينا شهرين في تيندوف، أي بعدما سمعوا أن منظمة دولية ستزورنا، وقتها وزعوا علينا لباسا عسكريا يشبه اللباس العسكري الجزائري.
في اليوم الرابع من وصولنا هذا المكان، أيقظونا فجرا وتم توزيعنا إلى مجموعات كثيرة وتحديد مهام كل مجموعة؛ مجموعة للقيام بأعمال الفلاحة، أخرى للقيام بأعمال حفر الآبار والخنادق، وأخرى بأعمال البناء، تنظيف المخيم، صناعة الياجور، شحن وتفريغ الشاحنات، مساعدات الموظفين في الشرطة والمكاتب والإدارات وغير ذلك.
منتصف شهر نونبر من سنة 1994، زارنا نشطاء من منظمة الصليب الأحمر الدولي. كانت سلطات المعتقل على علم بمجيئهم لذلك وزعت علينا ملابس عسكرية جديدة. كانت فرحة هؤلاء النشطاء وهم يصافحوننا ويجالسوننا فرحة كبيرة، ربما أكبر من فرحتنا بقدومهم، شعروا أنهم اكتشفوا شيئا عجيبا، وأنهم حققوا نصرا كبيرا بولوج هذا المعتقل السري بعد محاولات عديدة باءت بالفشل.
ولجوا المعتقل في تمام التاسعة صباحا، جالسونا، حكينا لهم عن معاناتنا كما لو كنّا نحكيها لأقربائنا. كيتيم وجد أخيرا صدرا ليضع عليه رأسه ويبكي. التقطوا لنا صورا فردية وجماعية. سجلوا معلوماتنا وكل ما يتعلق بنا. أخبرناهم أيضا بأن لنا إخوة عددهم 54 رجلا، يقبعون في معتقل سري بقاعدة بوغار بالجزائر. أخبرناهم بوصف المكان من الداخل والخارج، وبكم يبعد عن هذه المنطقة وتلك.
خلال اليوم ونصف اليوم الذي قضاه معنا نشطاء تلك المنظمة، شعرنا بأننا قريبا سنلتحق بأُسرنا، وأن الخلاص لا محالة سيأتي على يد هؤلاء الذين نذروا حياتهم لخدمة الأسرى والمساجين. خلال تلك الزيارة التي نعمنا بها بعد 18 سنة من الأسر، طُلِبَ منّا أن نكتب رسالة بسيطة لأهلنا، رسالة فيها فقط إخبار بالحياة. لكن لمن سنكتب هذه الرسائل، لقد اقترب الكثير منا من قضاء عقدين من الزمن في المعتقلات، ولا شك أن الكثير من أهلنا ماتوا، ومن لم يمت فقد رحل نحو وجهة ما، فأي عنوان سنكتبه على المظروف؟ ومن هذا "المرسل إليه" الذي مازال حيا كل هذه المدة لكي نكتب له؟ أصعب أنواع الرسائل تلك التي تكتبها لشخص لست متأكدا أنه الذي سيقرؤها، تكتب أحاسيسك المخزونة طيلة عقدين من الزمن، وفي الأخير تُقامر بها في رسالة قد تصل وقد لا تصل، وإذا وصلت تتقاذفها الأيدي كجمرة متقدة إلى أن تسقط أرضا وتنطفئ.
الرسائل التي تصلنا في القرى المنسية يوزعها البريد على القيادات، ويقوم المقدمون بتوزيعها على أصحابها في الدواوير، ويحدث كثيرا أن تبقى الرسالة في حقيبة المقدم لشهور إلى أن يتخلص منها كطعام فاسد. حتى بعد أن تقنع نفسك أن لرسالتك قارئ ما، فماذا سنكتب في تلك الرسالة؟ جمل مستعملة من قبيل "نحن بخير وعلى خير ولا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز"؟ أم نبدأ الحكاية من الألف إلى الياء، ونقصص عليهم مآسينا؟
لكنهم أصروا أن تكون الرسالة قصيرة، لا تتضمن سوى إخبارا بمواصلة الحياة، ووعد بالعودة عندما تسمح الظروف الدولية المعقدة. مع ذلك سنكتب، سنكتب بِنية أن لرسائلنا قارئا ما، سنكتب لأهلنا ونخبرهم بأننا ما نزال أحياء.
بعد أن غادر نشطاء الصليب الأحمر الدولي المعتقل الذي نتواجد به، قامت سلطاته بإعادة توزيعنا لمزاولة الأعمال التي تعود عليهم بالنفع. فإلى جانب المجموعات التي تم ذكرها، تم تشكيل مجموعات أخرى لصناعة الفحم وأخرى لجلب نبات الحلفاء وصناعة الحصائر منه. حتى جمع فضلات أجسامهم كلفوا به مجموعة من الأسرى، ويفرضون أن يتم جمعها بالأيدي وهم يسخرون منا:
ـ اجمعوه بأيديكم، ذاك هو فسفاط بوكراع وحوت واد الذهب.
كنت أنا ضمن الذين بقوا في مخيم الدخلة بعوينة بوكراع، نزاول كل ما يطلبونه من خدمات. ذات يوم جاء رجل أوروبي لا أتذكر جنسيته، كان مكلفا بحفر الآبار وبنائها بالاسمنت والحديد. وجاء هذه المرة لتفقد الأشغال ومراقبتها.
نزل إلى البئر فانهار عليه، ولم يظهر سوى رأسه. هرب كل رجال البوليزاريو الذين كانوا معه، ولم يتبقّ سوى الأسرى المغاربة، بدءوا يحفرون طويلا لإنقاذ حياته، وقد استطاعوا انتشاله حيّا. بعد ذلك قدمت له سلطات المعتقل بعض المساعدة الطبية، وبقي ممددا ليوم كامل، وفي الصباح لما عاد إليه وعيه، طلب لقاء الرجال الذين أنقذوا حياته من الموت. وقتها انفرد به الأسرى قالوا له:
ـ نحن لسنا عمالا وإن كنت تدفع لسلطات المخيم أجورنا فهي لا تصلنا، نحن أسرى مغاربة، تم القبض علينا في معارك وكمائن، وعندما انهارت عليك البئر الرملية فرّوا هاربين، ولم ينقذك غيرنا.
في المساء أخبر سلطات المخيم أنه سيسافر لبلاده ليجلب المعدات اللازمة للحفر الآمن في الرمل، ومن وقتها لم يعد.
منتصف شهر مارس من سنة 1995، عاد نشطاء الصليب الأحمر الدولي، جاءوا وهم يحملون إلينا رسائل من الأهل والأحبة. رسائل وأخبار تصلنا دفعة واحدة بعد 19 سنة من الغياب. وكم تمنّى العديد من زملائي الأسرى لو لم تصلهم تلك الرسائل، فقد مزقوا تلك الأظرفة في شوق، لكن الأخبار كانت صادمة للعديد من رفاقي..






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-14, 22:13 رقم المشاركة : 14
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش يتذكر "رسائل الشؤم" بالمعتقل في انتظار الخلاص


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الثلاثاء 14 يوليوز 2015 - 20:30
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.
(14)
كانت الرسائل التي وصلتنا صادمة فوق تحملنا. رسائل وكأن أعداءً هم الذين كتبوها .لم يرحم كُتّابُها من أهلنا ضعف أسير يعيش أيامه ذليلا بين الأعداء. أسير عاش عقدين من الزمن في السجن على أمل أن يجد أناسا تركهم هناك خلف هذه الكثبان وقد صانوا العهد.
الذين كتبوا تلك الرسائل بوعي أو بدونه لم يفكروا فيما يمكن أن تخلقه كل تلك الأحقاد والضغائن التي كدسوها في تلك الأوراق. ..كل ما فعلوه أنهم أطلقوا العنان لأقلامهم:
" والداك انتقلا إلى دار البقاء منذ عقد"، "عمك استولى على منزلك وباع أرضك" ، " أخوك تزوج زوجتك بعد غيابك وقد أنجبت له ذكرا وثلاث إناث ". " أمك قد جُنت بعد خمس سنوات من غيابك " ، " أمك بكتكَ إلى أن فقدت بصرها " ، " زوجتك تزوجت غيرك بعدما أقنعها الجيران أنك انتقلت إلى دار الحق " ، " زوجتك ما زالت تنتظرك في بيتك " ، " زوجتك انحرفت عن الطريق السوي وغدت عاهرة تعرض خدماتها لعابري السبيل وطالبي المتعة إلى أن شاخت ". " ابنتك الكبيرة زاغت وقد أنجبت سفاحا "، " خطيبتك تنتظر عودتك منذ رحيلك، وخطبها كل شبان الدوار وما رغبت في غيرك ". " عمك وأخوك ما يزالان في ردهات المحاكم منذ غيابك بسبب رغبتهما في الاستيلاء على حقك في تركة أبوك " ، فلان قد قتل فلان " ، " وفلان وجدوه مع فلانة ".. كلمات كالرصاص، تقتلك مرات عديدة دون أن تسيل الدماء.
هناك من قرأ الرسالة التي وصلته واختلى بنفسه يبكي لساعات كطفل صغير، ومن الأسرى من قرأ تلك الأخبار وظل لأيام على شفا الحمق، يحدث نفسه، يسأل ويجيب كمن يحدث شخصا في هاتف. هناك من لم يتوصّل بأي جواب، وكم خاب ظنه عندما نُودي على الأسرى لتسلم الأظرفة الصفراء ولم يُناد عليه. يتألم في صمت كمقطوع من شجرة، يسأل نفسه : هل مات كل أهلي؟ ولم يعد لي من قريب في الديار ليكتب لي ولو جملةً يتيمة.
لكن الكثير من الذين تلقوا كل تلك الأخبار الصادمة تمنّوا لو لم يسمعوا أسماءهم عند توزيع تلك الرسائل. أحسن الأخبار هي ألا تسمع أخبارا. تأزمت نفسية العديد من الأسرى لأيام وهم الذين كانوا يتمنون أن يسمعوا بعض الأنباء المفرحة تكون سندا لهم في الأسر. بعضنا توصل بصور لشبان لا يعرفهم، وخلف الصور تعاليق عن هوياتهم، هذا ابنك الذي تركته في البطن عندما غادرتَ القرية، هذه ابنتك ذات السنتين عندما سافرتَ، وهذا ابنها الصغير، فقد تزوجت منذ أربع سنوات..
غادر نشطاء الصليب الأحمر الدولي المعتقل وقد فتحوا جراحا خفية وكُلُوما معلنة في قلوب الأسرى. ودعناهم ونحن نتمنى لو يأخذوننا معهم لنغادر هذا العالم الموبوء. أفهمونا أن إطلاق سراحنا الآن أمر صعب، لكن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وقد بدأت هذه الخطوة.
عُدنا بعد ذلك إلى أشغالنا اليومية، تمضي الأيام متشابهة لا شيء يميزها. نُزاول ما نؤمر به في تفان كما يليق بأسرى لا يملكون سوى الطاعة، في انتظار الخلاص.

ذات يوم جاءت شابة إسبانية تتحدث الفرنسية لتنفيذ مشروع حفر آبار وبنائها بالاسمنت والحديد بالصحراء، ربما جاءت لتعوض ذلك الأوروبي الذي تم إنقاذه فهرب بجلده من الموت. بدأت الأشغال في أماكن عديدة، وزودتها سلطات المعتقل بفرق من الأسرى المغاربة ليشتغلوا لديها بصفتهم عمالا.
ذات يوم اكتشفت أن كميات مهمة من الحديد قد سُرقت في مخزنها، كما اختفى عدد كبير من المضخات والمعدات. ولم تجد غير الأسرى المغلوبين على أمرهم لتفرغ فيهم جام غضبهم. إذ اتهمتهم أنهم الذين سرقوا معداتها ومواد البناء.
تدخل أحد الأسرى الذين يتكلمون الفرنسية وأفهمها أننا أسرى مغاربة، مقبوض علينا في كمائن ومعارك. وأننا لا نتقاضى مقابلا عن عملنا في حفر الآبار، بل هو عمل إجباري. وأقنعها بعد ذلك أن الأسير قد يسرق ما يسد به الرمق من طعام وشراب إذا شعر بالجوع، أما الحديد والاسمنت والمضخات فالذين يسرقونها يسافرون لبيعها في أسواق الجزائر وموريطانيا. أما الأسرى، فأنّى لهم أن يتجاوزوا رقعة هذا المخيم ومحيطه.
بعد يومين سافرت الشابة الاسبانية بذريعة التداوي في مدريد، ولم تعد نهائيا.
في تلك السنة هرب طيار مغربي رتبته ملازم، لم يفطنوا بذلك حتى ابتعد كثيرا، قاموا بجلب رجل من الرعاة الصحراويين، يملك خبرة كبيرة في اقتفاء أثر المشي في الرمال. رافقهم حتى بلغوا مسافة أربعة كيلومترات عن المخيم، فوجد فوق صخرة آثار قدمه عندما هام بعقد خيوط حذائه.
نصحهم أن يعودوا أدراجهم، فالرجل يشرب الشاي الآن مع الجنود المغاربة. لم يأخذوا بنصيحته، بل واصلوا الطريق آملين أن يعثروا عليه، حتى اقتربوا من القوات العسكرية المغربية، عثروا على آثار أقدامه، فتأكدوا أن الطيار قد نفذ بجلده ووصل بر الآمان.
هروب ذلك الطيار المغربي ونجاته جعلهم يعيدون حساباتهم، إذ تم جمع الأسرى من جديد وتشغيلهم في بناء معتقل جديد بجانب هذا الموجود الذي نعيش فيه. فتم نقل الضباط الأسرى نحو هذا المعتقل الجديد، المشيد في مكان تتوفر فيه كل شروط العذاب والجحيم، حيث يوجد بين الجزائر والصحراء المغربية وموريتانيا. مكان فيه العقارب السامة والأفاعي الخطيرة والمناخ المتقلب.
تمضي الأيام ثقيلة كالشهور، وزوارنا السابقون من تلك المنظمة الدولية فتحوا بداخلنا نافذة تطل على الأمل، نافذة لا نريدها أن توصَد. أعطونا جرعة من الأمل في أن يأتي يوم ننتظره بشوق، يوم نتحرر فيه، نرى فيه من بقي حيا من أقربائنا، نترحم فيه على من مات منهم، نزور قبورهم ونرفع الأكف أن يلاقينا بهم في حياة أخرى..
تمر الشهور والأعوام، ولا أثر لأولئك الرجال الذين زارونا حتى بدأ اليأس يعرف طريقه إلينا.
في يوليوز من سنة 1998، نقلونا نحو معتقل آخر يسمونه "مركز 9 يونيو". كنا 50 أسيرا ممن تم تنقيلهم من مخيم "الدخلة". اشتغلت في بناء مركز للاستقبال، بين الفينة والأخرى يزورنا شبان صحراويون يدرسون في كوبا، من الجزء الثالث من تركيبة البوليزاريو، إذ البوليزاريو يتكون من ثلاث أجزاء: الأول هم بعض المنتمين لقبائل كل من الركيبات السّاحل والدليميين وأيت أوسا، وهم قبائل غنية قبل اندلاع الحرب. ذاقوا ويلات الحروب والتهمت رحاها أموالهم وممتلكاتهم وأصبحوا فقراء، وأصبح هدفهم الآن العودة والاستقرار مهما كان الحاكم. أما الجزء الثاني فهم من المنتمين لقبائل ركيبات الشرق من سكان تيندوف وبشار وغيرها. هي فئة اغتنت من الحرب والصراع الدائر. تمارس تجارة المساعدات المقدمة من الدول، وتهريب المواشي للأسواق الجنوبية. وأما الجزء الثالث فهو الجيل الذي ازداد في المخيمات وترعرع هناك، تنقل بين الجزائر واسبانيا وكوبا، شبان لا يحكمهم قانون ولا عرف. يعيشون عالة على المنظمات والدول التي تساندهم.
قضيت في ذلك المكان شهرا كاملا، وعندما حل شهر غشت من تلك السنة حاول ثلاثة أشخاص الهرب. فشلوا في ذلك، إذ مات منهم اثنان من التعذيب عقابا على محاولة الهرب، بينما بقي الثالث حيا.
عندما يحاول شخص ما الهرب من الأسر، فالجميع ينال العقاب. سواء نجح في الهرب أو فشل، فإن جرعة إضافية من التعذيب تطال كل الأسرى، حتى الذين لم تسمح لهم الأمراض المتزاحمة في أجسادهم من التفكير في الهرب.
قامت سلطات المعتقل بشحننا في شاحنات عسكرية نحو أرضٍ خلاء، هناك أحرقت كل أمتعتنا وأغطيتنا وممتلكاتنا البسيطة. بعد ذلك أكملوا بنا الطريق نحو الرابوني، فيما تم نقل الأسرى المتواجدين وقتها بالرابوني نحو معتقل " 9 يونيو".
في الرابوني اشتغلت في صناعة الآجر، بغرض بناء مركز للدرك حتى متم شتنبر من نفس السنة. ثم نقلوني ضمن 25 أسيرا نحو "عوينت بالكرع" هناك كنا نزاول من الأعمال الشاقة ما نؤمر به. ذات يوم كانت الرياح قوية، لدرجة أن مسئول تلك المنطقة ويسمونه والي الولاية، أمر بحظر التجوال ومنع الناس من العمل خارجا. مع ذلك جاء إلينا نائب رئيس هذا المعتقل واختار منا عشرين أسيرا وكنت منهم، وأمرنا أن نذهب لصناعة البريك.
أخبره الحراس بأن الوالي أصدر قرارا يمنع فيه خروج أي شخص للخارج بسبب سوء الأحوال الجوية، فكان رده:
ـ أنا الذي أقرر ماذا على المساجين فعله، وليس الوالي.
أمرنا أن يصنع كل شخص منا 100 قطعة من البريك في ذلك الجو المكهرب، حيث الرياح العاتية المحملة بالرمال لا تسمح لك برؤية يديك.
لما غادر نحو مكتبه رفعنا أكف الضراعة إلى الله أن ينتقم لنا من هذا الرجل، قرأنا الفاتحة وطلبنا من الله أن يخلصنا من جور هذا المتسلط، ثم انهمكنا نشتغل.
يؤجل الله دعواتنا، لكنه لا ينساها.. اختفى الرجل بعد أسبوعين، فمن قائل أنه انتقل لمخيم آخر، ومن قائل أن مرضا ألم به، ثم سمعنا بعد شهر أنه يتلقى العلاج في مستشفى عين النعجة إلى أن مات، فَتم تعويضه بمسئول اسمه صِيلَة، وفي عهده سوف يأتي الخلاص، لنعود إلى أوطاننا، وتلك قصة أخرى..






    رد مع اقتباس
قديم 2015-07-18, 00:30 رقم المشاركة : 15
express-1
بروفســــــــور
 
الصورة الرمزية express-1

 

إحصائية العضو








express-1 غير متواجد حالياً


وسام التميز لشهر مارس 2012

افتراضي رد: عليلوش .. حكاية مغربي قضى ربع قرن بسجون الجزائر


عليلوش: هكذا غادرتُ معتقل البوليساريو .. وعانقت حضن الوطن


هسبريس ـ ميمون أم العيد
الجمعة 17 يوليوز 2015 - 23:05
24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة.
وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن.

(الحلقة الأخيرة)
لم يكن المسؤول الجديد عدوانيا كسابقه، على الأقل بالنسبة إليّ. في أول يوم تعيينه وتعرفه على الحرّاس والأسرى قرر أن ينشئ حديقة كبيرة بجانب المَحبس أو المخيم كما يسمونه هم.
وقعت عينه عليّ، وعلى زميل من تونانت، فأمرنا أن نتكلف باستصلاح الأرض، وغرس الحديقة الكبيرة بالخضروات. اشتغلنا معا في تلك الحديقة قرابة السنتين، أعمل في الأرض كما كنت أفعل في السنوات البعيدة قبل أن ألج الخدمة العسكرية.
كان لي خلاف دائم مع أحد الحراس في عهد "صيلة". لا أذكر اسمه، لكنني أتذكر الشكايات العديدة التي كان يرفعها بي، مرة يخبره أنني أتمارض ومرة يخبره أني لا أشتغل كما يجب. كان رئيس المركز وقتها لا يأخذ كل ذلك مأخذ جد.
يتحقق من وشاياته أولا، وبعدها يتخذ قرارا. مرة اتهمني أني سرقت حبات البصل من تلك الحديقة التي أحرثها وأزرعها منذ سنتين. أذكر أن رئيس المركز أجابه وقتها:
ـ اسمع، دع عنك "الشليّح"، مهمتك أن تحرسه من الهرب.
كان ذلك في نونبر من سنة 2000، لما غادر الرئيس قال لي وقتئذ:
ــ تحصل تحصل، ولو بعد عام.
لم أجبه، لكن الأقدار أجابته بدلا عني. لم تمض سوى ثلاثة أيام عن تلك الواقعة التافهة حتى جاء قرار الإفراج عنا.
أتذكر جيدا تلك اللحظة التاريخية التي وشمها الفرح بداخلي، ذهبت لساحة المعتقل لاستقصاء أمر ما، فالتقيت رفيقا لي من صفرو فباغتني:
ـ ألف مبروك يا عليلوش.
ـ مبروك ماذا يا الغمري؟
ـ الإفراج! كل الذين اعتقلوا في 1976 سوف يفرج عنهم.
عدت إلى غرفتي منتشيا من سكرة الفرح. لقد تعودت على سماع هذه الأخبار اللذيذة وكلها أخبار كاذبة، لكنني شعرت هذه المرة أن الأمر يختلف عن المرات السابقة. إحساس داخلي قوي يخبرني أنني سأغادر المحبس نحو قريتي. لم يُغمض لي جفن تلك الليلة، استلقيت في سريري متأملا سقف الغرفة. فكرت أن أوقظ رفاقي ليشاركونني الفرحة، اثنان من أسرى 76 وآخر من أسرى 77. بعد برهة تخلصت من الفكرة، وبقيت وحيدا أنتظر الصباح.
بُعيدَ الفجر بدأت المناداة على الأسماء بغية توزيع الأسرى على الأعمال اليومية. عزل رئيس المركز الأسرى المقبوض عليهم سنة 76، وأمرنا أن نعود إلى غرفنا لجلب ملابسنا بسرعة.
قرب الغرف التقيت حارسا فظا، هنأني بمناسبة الإفراج وطلب مني الصفح. كان الوقت غير مناسب لأي حديث عن الصفح والغفران، لذلك أسرعت لجلب أغراضي لألتحق برفاقي.
بعد ذلك انطلقوا بنا من عوينت بالكرع نحو المعتقلات الأخرى القريبة لجلب بقية المساجين الراسخين في الأسر من جيلي. اجتمعنا في مدرسة لا تبعد كثيرا عن الرابوني. قضينا هناك أسبوعا كاملا من الانتظار الممل الطويل. عندما جاء نشطاء الصليب لرؤيتنا، أخبرونا أنهم تلقوا اتصالا من سلطات البوليساريو، اتصالا مفاده أنهم يرغبون في إطلاق سراحنا، لكن الأمر يتطلب موافقة المغرب ـ بلدنا ـ إن كان يرغب في استقبالنا أم لا؟
"أم لا؟".. هل تملك دولتنا خيارا آخر غير استقبالنا بالأحضان؟ أَيمكن أن يتنكر لنا مسئولو بلدنا بعد كل هذا العمر المهدور من سجن لآخر؟
انتظرنا 24 ساعة إضافية نضرب الأخماس في الأسداس. 24 ساعة كانت بالنسبة لنا أطول من الـ24 سنة التي قضيناها في الأسر وأقسى. ماذا لو رفض المغرب استقبالنا؟ ماذا لو اشترط شروطا ما على الانفصاليين ويرفضونها؟ ماذا سيكون مصيرنا لو لم نُرحّل لبلدنا؟ آلاف السيناريوهات ظلت في تفكيرنا كل تلك 1440 دقيقة التي مرت علينا في انتظار الجواب.
بعد عصر اليوم الموالي جاء الرد من الطرف المغربي بأنه يرحب بأسراه ويريد استقبالهم، مع ذلك خاطبنا أحد نشطاء الصليب الأحمر الدولي:
ـ "تلقينا ردا من المغرب يفيد استعداده لتسلمكم، لكننا دائما في مثل هذه الحالات نطرح سؤالا عن كل المفرج عنهم، هل تودون الذهاب جميعا إلى المغرب أم يوجد بينكم من لا يرغب في ذلك، ويحب الذهاب إلى دولة أخرى؟ لأن من يرغب فيكم في دولة أخرى غير بلده المغرب فنحن مستعدون لنقله إليها تحت رعايتنا ومسئوليتنا."
لقد استغربنا كثيرا من هذا السؤال الذي اعتبرناه ساخرا، ومتهكما منا وحاطا من كرامتنا. أخبرناهم أننا جنود مغاربة، لم نرتكب جريمة كي نهرب، لقد اعتقلنا منذ 24 سنة وزيادة دفاعا عن وطننا وحدوده وامتثالا لأوامر رؤسائنا المغاربة، فأي جدوى لهذا السؤال بعد كل ما ذقناه في الأسر. إن لنا أبناء وأمهات وزوجات وأخوال وأعمام وأقارب وجيران في المغرب وكلنا شوق للقائهم.
أمرونا أن ننتظر حتى تأتي طائرة من جنيڤ يوم غد وبعد ذلك سنرحل نحو بلدنا المغرب.

على الساعة العاشرة صباحا بدأت وفود من الصحافيين تحج نحو المكان الذي بثنا فيه، يصوروننا ويسألوننا أسئلة تافهة من قبيل: هل تودون الذهاب فعلا للمغرب؟ أحد زملائي صرخ في وجه أحد صحافيي "الجزيرة": لن أُجيب على أسئلتك الغبية.
أقلتنا حافلات ونحن 201 أسيرا نحو مطار تندوف. انتظرنا الطائرة التي ستنقلنا للمغرب قرابة الساعة، والانتظار يفقدني أعصابي، يجعلني أتخيل أن حلم الإفراج ليس سوى وهما. ها هي ذي ذات الجناحين تقف غير بعيد عنا، وها نحن نصعد إليها زُرافات و وِحدانا، وهاهو حلم الفرج المؤجل منذ ربع قرن قد بدأ يتحقق.
تنطلق الطائرة نحو المغرب والفرحة العظيمة تغمرني، شيء أكبر من الفرح بكثير. بدأوا بتوزيع قطع من الشكولاطة علينا، فأخبرناهم أننا صائمون، فقد تزامن الإفراج مع رمضان. بعد ذلك قاموا بتوزيع وجبة الغذاء على المرضى الذين لم يستطيعوا الصيام منّا. فيما احتفظ الصائمون منا مربعات الشكولاطة إلى المغرب.
حطت الطائرة بمطار الدشيرة بأكادير، بعد أن صعد مسئول عسكري لعدّنَا نزلنا نحو أرضية المطار لشكر الله على أننا مازلنا على قيد الحياة والآن على قيد الحرية..
ركبنا حافلات في اتجاه ثكنة عسكرية وبها قضينا مدة لاستكمال الإجراءَات الضرورية. بدأت عائلات الأسرى في التوافد إلى أكادير لزيارتنا وتقديم الوثائق اللازمة من عقود ازدياد وعقود زواج وغير ذلك، ثم بعد ذلك وُزّعنا على المستشفيات للتطبيب.
قضيت شهرين في مستشفى بمراكش للتداوي من مخلفات سنين القهر وسوء التغذية والأعمال الشاقة، وبعدها عدت إلى أكادير نحو الثكنة العسكرية لترتيب أوراق التقاعد. بعد أسبوع جاء أخي ليرافقني نحو بلدتي "النقوب" في تخوم الجنوب الشرقي. كنت كمن عاش في كهف مدة ربع قرن وفجأة يخرج للقاء الناس في هذه الدنيا التي تغيرت كثيرا.
وصلت بيتنا ليلا، وجدت أُمي وبعض أقاربي في انتظاري.. أمي التي أخبرها شهود زور أنني دفنت في رمال الصحراء، تتحسس وجهي كطفل صغير لتتأكد إن كنت حقيقة أم طيفا من أحلامها الليلية. ثم تنخرط في نوبة بكاء.
في تلك الأيام التي تلت وصولي، اعتكفت داخل المنزل لاستقبال جحافل الجيران والأقارب الذين جاءوا للتأكد من أنني ما أزال حيا كما يدّعون. بقيت صموتا، أكتفي بالنزر القليل من الكلام كالردود المختصرة عن الأحوال والمآلات. كنت أشعر أن أحوال الناس تغيرت نحو الأحسن لكن قلوبهم قست وتحجرت، وأن نضوب الآبار وشح السماء أثّر كثيرا على عواطفهم ونفسياتهم. طغت الماديات على تصرفات الأفراد وغدت تحركاتهم محسوبة بما يمكن أن يجنوه من مال ومصالح.
وجدت أثمان المواد قد تضاعفت ست مرات وأكثر، لدرجة ظننتُ فيها لوهلة أولى أن البائعين يتعمدون مضاعفتها مرات كثيرة لأنهم يعلمون جهلي بأثمنة المواد وأحوال السوق!
بعد شهور من النقاشات الداخلية، بين عدّي الأسير وعدّي العائد وعدّي الذي كنته قبل أن أغادر هذه القرية الهادئة قبل ربع قرن، قررت أن أتخلص من الماضي وأثقاله وأبدأ حياة جديدة بنفسٍ شبابي.
صحيح أن ما أتقاضاه من تقاعدي هو 1800 درهما شهريا، وتكاليف العيش الجديد لا تُتحمل، الكراء والدواء والأكل والشرب وغير ذلك، خاصة وأني قررت أن أستقل بنفسي وأبدأ من جديد. لكني عزمت على ألا أفني ما تبقى من عمري في انتظار الذي يأت وقد لا يأتي. تزوجت وأنجبت لي زوجتي ابنا..
تقدمت بطلب الحصول على رخصة استغلال سيارة أجرة بزاكورة دون جدوى، ثم جددت الطلب بورزازات بعدما غيرت محل سكني. أذكر أن مسئولا يبحث عن ذريعة لرفض طلبي رد عليّ:
ـ أنت لست من هذه المدينة كي تقدم طلبك هنا. يجدر بك أن تقدم طلبك في مسقط رأسك.
حاولت أن أقنعه أنني عندما أُسرتُ في الصحراء لم أكن أدافع عن هذه المدينة أو تلك، بل كنت أدافع عن وطني، وأنّى ذهبتُ فتلك مدينتي وسكناي.
قُبِل طلبي بعد شهور، وحياتي بدأت تأخذ منحى إيجابيا بأطفالي الصغار الذين فرحت بقدومهم، لولا أن والدتي التي انتظرتني طويلا قد سلمت روحها لخالقها في حادثة سير بعد شهور فقط من عودتي، وكأنها كانت تنتظرني أن أعود لتطمئن أني ركبت ولو متأخرا قطار الحياة، فتنزل هي منه..






    رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are معطلة


مــــواقـــع صـــديــقــة مــــواقـــع مـــهــــمــــة خـــدمـــــات مـــهـــمـــة
إديــكـبـريــس تربويات
منتديات نوادي صحيفة الشرق التربوي
منتديات ملتقى الأجيال منتديات كاري كوم
مجلة المدرس شبكة مدارس المغرب
كراسات تربوية منتديات دفاتر حرة
وزارة التربية الوطنية مصلحة الموارد البشرية
المجلس الأعلى للتعليم الأقسام التحضيرية للمدارس العليا
مؤسسة محمد السادس لأسرة التعليم التضامن الجامعي المغربي
الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي التعاضدية العامة للتربية الوطنية
اطلع على وضعيتك الإدارية
احسب راتبك الشهري
احسب راتبك التقاعدي
وضعية ملفاتك لدى CNOPS
اطلع على نتائج الحركة الإنتقالية

منتديات الأستاذ

الساعة الآن 17:18 لوحة المفاتيح العربية Profvb en Alexa Profvb en Twitter Profvb en FaceBook xhtml validator css validator

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML
جميع المواد المنشورة بالموقع تعبر عن أصحابها فقط ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع ولا يتحمل أي مسؤولية عنها

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd